الاثنين، 17 أكتوبر 2011

انعكاسات العولمة على المضامين التعليمية


الدكتور قوي بوحنية

     تبدو العولمة كسيرورة ذات مساقات  تقانية واعلامية قد   ساهمت  بشكل  كبير في اعادة صياغة المضامين الفكرية والتربوية والتعليمية وهو ما أبرز مفاهيم الجودة والنوعية  وما تتضمنه من حلقات، وتأتي هذه الانعكسات بفعل ما تم  تطويره من مقاربات تهدف الى  الاهتمام بالكفاءة  تأسيسا لمجتمع المعرفة. وفي ما يلي عرض لأهم هده الانعكاسات.

انعكاسات العولمة  على المضامين التعليمية
أ. د. بوحنية قوي
أستاذ الادارة والعلوم السياسية جامعة ورقلة الجزائر
  تمهيد
        تبدو العولمة كسيرورة ذات مساقات  تقانية واعلامية قد   ساهمت  بشكل  كبير في اعادة صياغة المضامين الفكرية والتربوية والتعليمية وهو ما أبرز مفاهيم الجودة والنوعية  وما تتضمنه من حلقات، وتأتي هذه الانعكسات بفعل ما تم  تطويره من مقاربات تهدف الى  الاهتمام بالكفاءة  تأسيسا لمجتمع المعرفة. وفي ما يلي عرض لأهم هده الانعكاسات.
الاتجاه الأول: توظيف المقاييس الاقتصادية على النسق التعليمي:
     بما أن التعليم مشروع اقتصادي وليس فقط مشروعا تنمويا بيداغوجيا، علميا، إداريا وثقافيا فإن مدخلاته ومخرجاته شديدة الارتباط بعالم السوق التي أضحت متعولمة، فإن عولمة منطق السوق بالصيغة النيوليبيرالية منذ أواسط السبعينيات على سائر القطاعات الاجتماعية ومنها التربية والتعليم، أضحى الاتجاه الضاغط الذي تفرضه القوى الدولية ابتداء من مؤسسات "بريتن وودز" إلى المنظمة العالمية للتجارة، فالكل الاقتصادي الذي انتصر على دولة الرفاهية الاجتماعية والنموذج الكينيزي والتدخلي الاشتراكي للدولة في علاقتها بالسوق، ومنه ما يجري من تفكيك للضوابط القانونية التي كانت تخضع قطاع التعليم للإرادة الحكومية الداخلية فقط ومنه إضفاء المزيد من الخصخصة والمرونة على سيرورات تنظيم العمل، وتراكم المنتجات وتوزيعها واستهلاكها.
     هذا الاتجاه ما يفتأ يدخل إلى المنظومة التعليمية مفاهيم طالما اعتبرت من أدوات التحليل الاقتصادي كالمنافسة وكفاءة الأداء وتعظيم العائد وزيادة المردودية وتأكيد الربحية والابداع والابتكارية وغيرها من المفاهيم المرتبطة باقتصاد المؤسسة الانتاجية، التي طالما كانت وطنية التمويل والعمالة والأصول، فأصبحت مع ثورة الاتصالات والتغيرات في نمط تنظيم الإنتاج والتسويق مؤسسة تتحرك في سوق كوكبية الحدود، مع عمليات الأقلمة والعولمة الجارية للمبادلات والمعاملات خاصة مع تزايد ظهور التجمعات الإقليمية وتطور مسار تحرير التجارة الدولية منذ الحرب العالمية الثانية مع الجولات الثماني للاتفاقية العامة للتجارة والتعريفة الجمركية التي توجت بتأسيس المنظمة العالمية للتجارة.
     ففي سنة 1994م وقعت أول اتفاقية عامة للتجارة والخدمات/General Agreement For Trade and Services(GATS/AGCS)، على اعتبار أن حوالي ثلثي الأنشطة الاقتصادية في الاقتصاديات الصناعية تندرج ضمن قطاع الخدمات، وفيه أدرجت خدمات التعليم والتربية والتكوين والتدريب بكل أنواعها ومستوياتها، مع أن خدمة التعليم والتربية ذات أبعاد لامادية: ثقافية، اجتمـاعية  سياسية، حضارية أيضا.(1)
     وقد أخذ مصممو الاتفاقية المبدأين الكبيرين اللذين كانا أساسا لاتفاقية (الغات) المتعلقة بتجارة البضائع، وعمموهما على تجارة الخدمات، وهما: مبدأ الدولة الأولى بالرعاية ومبدأ المعاملة الوطنية. إن الاتفاقية العامة لتجارة الخدمات تقنن عملية تحرير تجارة الخدمات بشكل لا يقبل التراجع خلال مفاوضات دورية.
     ولأن هذه الاتفاقية من خلال التعريف الإجرائي الذي تتبناه لمصطلح الخدمات تستبعد من قائمتها الخدمات الموضوعة تحت تصرف الإدارة الحكومية، وتلك التي لا تكتسي طابعا تجاريا (المادة 1.3 من الاتفاقية)، فإن هذا يوحي لأول وهلة بأن خدمات التربية ليست متضمنة فيها، إلا أن الواقع غير ذلك، فالمنظومة التربوية لا يمكنها أن تستجيب لهذه المعايير، ما دامت لا توجد ضمن أفق تجاري  أي منظومة تربوية تمول وتدار كليا من طرف الدولة.
     فمعظم النظم التربوية تدخل ضمن المجال الذي تعنيه الاتفاقية، ومعظم الدول لديها نظم تربوية خليط حيث يتعايش التعليم الخاص والعمومي جنبا إلى جنب بنسب متفاوتة، لذلك فقد أصبح خضوع قطاع التربية لقواعد اتفاقية تحرير قطاع الخدمات أمرا تلتزم به حوالي ثلث الدول الأعضاء (من 144 دولة سنة 2003م )، قبلت بإدراج قطاع التربية ضمن قطاع الخدمات، فقاعدة ( الالتزام الصمت/Standstill) تنص على أنه بمجرد أن يلتزم بلد التزاما معينا، فلن يكون بمقدوره أن يفرض قيودا جديدة على الممولين الأجانب للخدمات، إلا أن يعوض البلدان المتضررة من تلك الإجراءات الحمائية، ولذلك نجد أنه لا توجد أي دولة فتحت قطاع التربية للمنافسة الحرة بلا قيود، نظرا للمخاوف التي تبديها إزاء الانعكاسات الثقافية والاجتماعية لفتح هذا القطاع الحساس، خاصة وأنه يتوقع عملا بقاعدة (Rollback) أن تفتح البلدان الأعضاء أسواقها تدريجيا، لذلك نجد فرنسا قد أصرت على اعتماد قاعدة " الاستثناء الثقافي" الشهيرة، كما أن اليابان قامت بوضع عدة عوائق قانونية حمائية لثقافتها و" تربيتها" للحيلولة دون الانعكاسات السلبية المتوقعة من تحرير قطاع الخدمات، بينما يجري تمرير هذا التوجه التفكيكي والتسليعي إلى قطاع التربية والتعليم في البلدان النامية وخاصة الخاضعة لبرامج التعديل الهيكلي وما يسمى بالإصلاحات الليبيرالية التي تضفى على الاقتصاديات المدينة أو المتحولة من الاشتراكية كالجزائر.
     إن المحاذير المختلفة التي أشير إليها والتي تنجم من آثار تطبيق (الغات) تهدد الكيانات التعليمية والبنى الثقافية الهشة للدول النامية، وأمام تردي الأوضاع الاجتماعية والمادية لأعضاء هيئة التدريس يترك المستقبل مفتوحا أمام سيناريوهات لا يمكن التنبؤ بها – ففي رأي الباحث – قد تحدث حركات نزوح داخل الدولة الواحدة، بمعنى قد يقدم عضو هيئة التدريس في جامعة حكومية استقالته ليمارس التدريس داخل دولته، ولكن في جامعة أمريكية أو ألمانية، ويتقاضى راتبا يفوق راتبه بأكثر من 10 مرات، ثم أن ذلك لن يكلفه هموم الهجرة وآلام الغربة !!
     لأجل ذلك نادت الكثير من الدول بضرورة إعادة النظر وإيجاد آليات محكمة لضبط وسائل التعاطي مع هذه الاتفاقية بما يحقق لهذه الدولة اقتناص الفرص الإيجابية وعدم القضاء على بناها التعليمية الجامعية.(2)
     من هنا يسعى المقاولون من أرباب الشركات الكبرى الخاصة في البلدان الصناعية، لتعميم عملية  تفكيك الضوابط/La déréglementationو" التسليع " على قطاع التعليم، فنجدهم يعززون موقفهم بالاستناد إلى رؤيتين: (3)
- الرؤية الأولى، يعبر هنا أرباب المؤسسات الموظِّفة، الذين يعتبرون أن نظاما تربويا محرراً من رقابة الدولة، ومقسماً إلى هويات مستقلة بذاتها ومتنافسة، يمكنه بشكل أفضل أن يتكيف - تلقائيا وبسرعة- مع التطلعات المتغيرة للأوساط الاقتصادية ومع التحولات التكنولوجية المتعاقبة.
- الرؤية الثانية، تستند إلى أن التخلي عن القطاع الخدماتي التعليمي العمومي، سيفتح تلقائيا آفاق أسواق جديدة ومربحة.(4)
ومن هنا تنامى الاتجاه إلى اعتماد صيغ عديدة لخوصصة قطاع التعليم والتربية والخدمات المرتبطة به من طباعة الكتب والمقررات المدرسية وتوزيعها والخدمات الاجتماعية للطلبة كالإطعام والإيواء والنقل بالإضافة إلى الخدمة التعليمية ذاتها.
     الاتجاه الثاني: الاتجاه نحو خصخصة التعليم:
ومن انعكاسات العولمة النيوليبيرالية على قطاع التعليم عبر العالم تزايد الأخذ بالخصخصة في خدمات التعليم والتكوين ضمن سيرورة تفكيك الدولة المتدخلة، سيرورة مدعومة بعاملين أساسيين هما:
·   انتشار وتعميم استخدام التكنولوجيات الجديدة للمعلومات والاتصالات(NTIC) ضمن ما يسمى بسياسات إقامة البنيات التحتية لمجتمع المعلومات التي تدخل أصلا ضمن الرهانات الاستثمارية لشركات المعلوماتية الكبرى( برامج، وعتاد، وأجهزة اتصال رقمية، وشبكات أنترانت، وإنترنت وأقراص مدمجة/CD-ROM، ومحاضرات عن بعد، والجامعات الافتراضية… الخ).
·   القيود المتعلقة بإدارة الميزانيات الحكومية، وخاصة في البلدان الخاضعة لبرامج إعادة الجدولة لديونها الخارجية وبرامج التعديل الهيكلي في البلدان النامية، أو تلك التي في البلدان المتقدمة تعاني من استمرار النمو لكن بمعدلات ضعيفة.
ومنه تزايد اللجوء إلى صيغ جديدة لتمويل التعليم مثل: الرعاية المالية /le sponsoring  ونظام القروض الطلابية وعقود التوأمة بين الجامعات المحلية والأجنبية والتكوين حسب الطلب والتخفيضات الضريبية والدعم المالي الحكومي المباشر للقطاع الخاص التعليمي والبحثي من أجل التنمية…الخ.
أما "سوق التعليم" فتنقسم إلى خمسة أصناف: سوق التعليم ما قبل المدرسي والابتدائي، سوق التعليم المتوسط، سوق التعليم الثانوي، سوق التعليم العالي، سوق الخدمات المرتبطة بقطاع التعليم كالمطاعم والنقل والمطبوعات والكتب والصحة التعليمية والتجهيز…الخ. وهي الأكثر تعرضا لهجوم موجة الخصخصة.(5)
­­
ومن أشكال خصخصة التعليم:
1.  ظهور وانتشار المدارس والجامعات الخاصة بسرعة كبيرة تحت تمويل شركات خاصة وتحت إشراف بسيط للحكومات.
2.    تحميل الطلاب التكلفة الكاملة للتعليم العام أو جزء منها في صورة رسوم وضرائـب.
3.  تطبيق نمط الخصخصة من داخل النظام الحكومي، باعتماد بعض وزارات التعليم نظاما مزدوجا يحتوى مدارس وكليات نوعية وامتياز تتلقى جميع ميزانياتها من الحكومة، إلا أنها لا تفتح أبوابها إلا لنوعية خاصة من الأفراد مقابل دفع رسوم بسيطة نسبيا.
4.  تطبيق نظام القروض الطلابية، حيث يقوم أحد البنوك الخاصة أو العامة الوطنية أو الأجنبية بإقراض الطالب تكلفة دراسته، ثم يقوم البنك باستردادها بعد تخرج الطالب بفوائد محددة.(6)
ورغم أن نمط تمويل التعليم يظل حكوميا في معظمه في معظم دول العالم، حتى في الدول الصناعية الثلاثين الأعضاء في منظمة التجارة والتنمية الاقتصادية/OCDEخاصة في التعليمين الابتدائي والثانوي، وذلك بنسب تتراوح بين 55إلى 91%، مع ملاحظة تزايد نصيب القطاع الخاص من تمويل ميزانية التعليم في جميع مستوياته، خاصة في التعليم الجامعي، علما بأن قطاع التعليم يعتبر سوقا مغرية فعلا بما تجيشه الأسر والحكومات والشركات من موارد مالية تصل مئات الملايير من الدولارات سنويا، ومنه فإن حجم تجارة التعليم العالي تقدر حسب إحصائيات 1995م بأزيد من 27 مليار دولار، ويتوقع أنها تزيد حاليا عن 250 مليار دولار. حتى أن تجارة خدمات التعليم العالي في الولايات المتحدة مثلا تحتل مرتبة هامة ضمن الخدمات الخمس الكبرى المصدرة إلى الخارج والتي درت على خزينتها حوالي 7 مليارات دولار سنة 1996م.(7)
وهذه بعض التقنيات والصيغ الجديدة التي تتبناها بعض الدول لتمويل التعليم العالي:
-       تكييف مساهمة الطلبة المالية حسب أهمية الاختصاصات المسجل فيها (نموذج الجامعات الأسترالية).
-       حرية تحديد حقوق التمدرس من طرف هيئات التدريس. (نموذج التعليم الجامعي النيوزيلاندي).
-       إخضاع نسب رسوم التمدرس لمستويات الدخل العائلي للطالب (النموذج الجامعي البريطاني).
-       تقديم معونات للطلبة محددة لزمن معين (النموذج الجامعي الهولندي ).
-   تقديم صيغ لتعويض تكاليف التعلم حسب مستوى الدخل  (صيغ تلجأ إليها جامعات أسترالية، هولندية، نيوزيلاندية، سويدية الخ).
-       تخفيضات ضريبية أو دعم غير مباشر لقطاع التعليم العالي الخاص، (نموذج الولايات المتحدة).
-   تقديم حوافز لهيئات التدريس الأجنبية والطلبة الأجانب للالتحاق بالجامعات الخاصة والتنافس على استجلاب أكبر عدد منهم بالتركيز على طلبة البلدان الغنية الخليجية ودول جنوب شرق آسيا الصاعدة اقتصاديا.(8)
ومع تنامي ذلك الاتجاه تتزايد هنا وهناك النقاشات والمساجلات حول الجدوى الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والسياسية والسيادية لمثل هذا التوجه الذي تعمد من خلاله الحكومات إلى د فع مؤسسات التعليم لتبني استراتيجيات المؤسسات الاقتصادية الخاصة، وهو اتجاه يكرس تسليع قطاع التربية والتعليم، كما يثير الجدل حول مسألة تقاسم تكاليفه بين العائلات والشركات والدول وأيضا مسائل تتعلق بنوعية الخريجين وتكريس الطبقية المعرفية في المجتمع.
 
الاتجاه الثالث: اعادة تموقع  الحكومي سعيا لافتكاك مكان في الأسواق المندمجة:
تسعى المنظومة التعليمية الحكومية خاصة العليا لاجتزاء حصة من السوق العالمية للتعليم من خلال تطوير هياكلها ومضامين برامجها وخدماتها لتوفير ميزة تنافسية لمخرجات التعليم لتساهم بها في نموها وتقدمها وتنميتها الوطنية، فهذه وزارة التربية ووزارة الشؤون الخارجية لفرنسا تسعيان من خلال إنشاء وكالة تربية فرنسا/Edufrance، مع إدارات الجامعات الفرنسية والمدارس الكبرى المتخصصة من أجل ترقية عرض التعليم العالي الفرنسي في السوق العالمية للتعليم العالي.
بينما تقوم حكومات دول الاتحاد الأوروبي ودول الشراكة الأورومتوسطية، بتبني نظام الليسانس والماجستير والدكتوراه/LMDالأنجلوسانكسوني لتمكين طلبتها من المنافسة في سوق تعليمية بحثية متعولمة.
ومن خلال تقارير المنظمة العالمية للتجارة يتبين أن عددا من الدول تجري عملية استبدال التشريعات التنظيمية التفصيلية الناظمة لقطاع التعليم العالي بـ " قوانين- إطار"  تحدد فقط الأهداف الكبرى التي ينبغي استهدافها، تاركة للمؤسسات التعليمية كامل الحرية لتختار وسائل بلوغها. فالدولة تمنحها استقلاليتها مقابل تخفيض الاعتمادات المالية التي اعتادت منحها إياها سابقا، بهدف حفزها على الدخول في السباق والتنافس لتحسين نوعية خدماتها ومنه سعيها لاستكشاف فرص تسويق منتجاتها التعليمية في السوق الدولية، مع كل ما ينجر عنه من انعكاسات على اتساع الطبقية والفجوات التعليمية وتنميط الثقافة واللغة داخل الدول وبين أمم الشمال والجنوب.(9)
وفي هذا الاتجاه تسعى دول نامية كثيرة للبحث لمنظوماتها التعليمية خاصة العليا عن شركاء أجانب لمساعدتها على عبور فجوات التخلف المعرفي والتكنولوجي وتدعيمها في تنفيذ برامج التنمية. فتجدها تنخرط في شراكات مع الدول المتقدمة والمنظمات الحكومية الدولية مع تعرضها لضغوط سيادية تقيد حريتها في صياغة سياساتها التعليمية والتنموية الاجتماعية.
إن هذا التوجه الحكومي إلى زيادة قدرة منظوماتها التعليمية التنافسية بقدر ما يزيد من الفرص التعليمية بإحداثه التكامل بين التعليمين الحكومي وغير الحكومي، الخاص الوطني والأجنبي، فإنه يكفل أيضا إضفاء معايير الحكم الراشد على هذا القطاع. كما أن هذا التوجه يراهن على إدخال المنظومات التعليمية المحلية ضمن ديناميكيات التنافس العالمي لكسر الجمود وحلقة البيروقراطية التعليمية وتخلف أساليب ووسائل التعليم والتكوين وتحديث الأطر والبنى الفكرية والمنهجية والتجهيزية المنظمة للنظم التعليمية الموروثة عن عصر المصنعي والزراعي وغير المتماشية مع متطلبات مجتمع المعلومات.
 
الاتحاه الرابع:  وتغير المناخ الثقافي للسياسات التعليمية في ظل العولمة:
تستند أطروحة التنمية من خلال المدخل التكنولوجي إلى المراهنة على أهمية التكنولوجيا في تغيير أساليب ونظم وفلسفة التعليم حيث تراهن على تأثير التغير التكنولوجي على عمليات الإدارة والتمويل والتدريس وصنع القرار والسياسات التعليمية وأساليب التوجيه داخل المنظومة وخارجها في سوق العمل المتحولة هي أيضا، حيث تتجه تكنولوجيات الاتصال والمعلوماتية والإعلام الرقمية المتجددة إلى إدخال المنظومات التعليمية في جميع دول العالم في مرحلة حضارية انتقالية تجريبية تنقلها من عصر إلى عصر معيدة تشكيل جميع الأنساق الاجتماعية تشكيل جديدا.
إن من أبرز آثار ثورة تكنولوجيا المعلومات على ثقافة التعليم، التراجع المتسارع لدور التلميذ التقليدي، وأساليب التعليم التلقينية، أي بداية نهاية التلميذ التابع والمنقاد إلى السلطة الفوقية للأستاذ والكتاب، وبدايات التخلص من حالة  النمطية، والسكونية والطفيلية الحاجرة على ملكات تشغيل الدماغ والتفكير التحليلي النقدي فضلا عن التفكير المبادر الإبداعي.
إن هذه الوضعية تتطلب صحة نفسية وذهنية عالية: وهو ما يستوجب توافر استقلالية عالية وتحمل للمسؤولية وقوة في الشخصية وقدرة على اتخاذ القرار وامتلاكا لمرجعية الخيارات وإطلاقا للطاقة الذهنية في أعمال الاستكشاف والاستقصاء والتحليل والنقد والتدرب على حسن الإبحار في محيطات المعلومات وتحديد وجهة الاستكشاف المرغوبة وحسن إدارة الوقت، والتمتع بمهارات التعلم الذاتي والتعلم التفاعلي.
كما تفرض شبكة الإنترنت على المتعلم المعاصر النظر بصورة تحليلية توليفية شمولية على خريطة الفكر الإنساني، من خلال روابط منطقية ومنهجيات العرض ودقة التعبير وقدرا من النظرة المتعددة الاختصاصات.(10)
 
الاتجاه الخامس: تغير العلاقة بين عالمي العمل والتعليم:
إن المتأمل لعالم الشغل الموروث عن العصر الصناعي يلاحظ طغيان النموذج التايلوري في تنظيم وإدارة عالم الشغل وفق النمط التنظيمي الهرمي الذي يشابهه التدرج الهرمي للمستويات التعليمية والإدارة التعليمية، وهذا المنطق يشدد على الفصل الشديد بين العمل المنتج والعمل غير المنتج، وفق المنظور المادي لنظرية القيمة.
لكن مع تغير بنية الإنتاج الصناعي من بنية متمركزة حول الإنسان الذي يشغل آلة صماء إلى إنسان متفاعل مع آلة تفاعلية بدورها من خلال شبكات المعلوماتية والروبوتية والأتمتة والنظم المعلوماتية الخبيرة ومنه تزايد أهمية التنظيم الشبكي للإدارة والإنتاج والتوزيع والتسويق والتمويل وإدارة الأزمات والمخاطر وتزايد عملية الفصل بين العمالة المتخصصة والعمالة غير المتخصصة  حيث يتزايد تعذر إمكانية تغيير العامل بعامل آخر نظرا للتخصص الفائق الذي تتطلبه مختلف العمليات الإنتاجية التي لم تعد تمكن من الاستبدال السهل لعامل بعامل آخر لآن المهام أصبحت تقتضي مهارات إبداعية ابتكارية غير المهارات التكرارية الروتينية التي تميز عمالة الأمس.
كما يجري التحول في عالم الاقتصاد من اقتصاد مصدر القيمة المضافة فيه هي عضلات الإنسان والموارد الطبيعية والمالية إلى اقتصاد يقوم على مصدر قيمة لا مادي، أي معرفي، معلوماتي، ذهني، خيالي. مما يتطلب مرونة لدى الخريجين للتكيف مع أشكال ونظم ومهارات العمل.
فالعولمة لها علاقة بظهور مجتمع الخدمات مجتمع اقتصاد المعرفة ومجتمع المعلومات، فالمجتمع ما بعد الصناعي أو الفائق التصنيع، أحدث ويحدث قطيعة مع نظم ألفناها ومهن ومسارات ترقية تتميز بالاستقرار والرتابة، فالاختراعات تتسارع والتطوير في التقنيات تترى أجيالها، مع تناقص لكلفتها وإمكانات تسويقها، وتحول للتقنية من تقنية نخبوية إلى تقنية جماهيرية.
كما أن الشركات أصبحت تصرف المزيد من ميزانياتها على التدريب المستمر للعاملين وتكييفهم لتحولات التقنيات وأساليب العمل والإدارة وتوجهات أسواق الإنتاج والعمل والتوزيع، كما تعقد عقود التكوين حسب الطلب مع جامعات متخصصة، بل تمول بميزانياتها ميزانيات جامعات ومدارس تابعة لها.
يتوقع أن يمر الإنسان المنتج مستقبلا فيما بين 4 إلى 6 تحولات مهنية خلال حياته المنتجة فالإنسان المنتج لن يكون كراكب القطار يبدأ من نقطة الانطلاق ويصل إلى خط النهاية عند سن التقاعد مارا بعدة محطات حياتية، بل سيتحول حاله إلى راكب ميترو يركب ثم ينزل بعدة محطات حتى يصل إلى التقاعد: القاعدة هي التبديل الدوري في الوظائف والأعمال والمناطق وليس استقرارها ومن ثم مرونة اكتساب المهارات الجديدة تصبح مفتاح إنسان المستقبل.
إن ما أهم إفرازات العولمة على الصعيد العلمي هو بروز مهن ذات تخصصات ترتبط بالمعرفة بالغة الدقة و يتجلى ذلك في المهن التالية:
الأولى كمهن: مهندس المعلومات، مهندس الذكاء الاصطناعي، مهندس التقنيات الحيوية مهندس تقنيات الليزر أو التقنيات الطبية، مهندس الروبوتات، مهندس البيئة، مدراء خدمات المعلومات.
أما الثانية كتلك المهن التي تجمع بين التقنية والإدارة والاقتصاد والمال والاجتماع وعلوم السلوك والإعلام والسياسة مثل: مهن الاستراتيجيات المالية، استراتيجيات السوق بمتغيراتها المتزايدة العدد، والتفاعلات وتعقيداتها وصولا إلى تكوين الرؤى واتخاذ القرارات في عالم متفاعل الأسواق والمساهمين والمستهلكين.
إنها بيئة عمل تتميز بالتنافسية الشديدة، وحرب المعايير الاجتماعية والاقتصادية والتأهيلية المستعرة والمتزايدة فيما يتعلق بنوعية وكلفة المنتجات والخدمات مع ما تتطلبه من تطوير مهارات تعليمية وخبرات مهنية، ومنه فقدان أعلى المهارات لفرص العمل بسبب تضخم أعداد الخبرات عالميا وانفتاح أسواق العمالة وانهيار الحدود الوطنية جمركيا، وهشاشة إجراءات حماية العمالة الوطنية.
لقد انتهى عهد الرعاية التي توفر الضمانات الوظيفية الدائمة والمداخيل المستقرة والتقديمات الاجتماعية والصحية والتربوية المغرية. فالشركات الكبرى أصبحت تستقطب عمالة متعددة الجنسية بمختلف أشكال التعاقد عبر التوظيف الخارجي وبواسطة عقود بالبريد الإلكتروني لإنجاز الأعمال إلكترونيا وتحويل أموالا الأجور إلكترونيا أيضا بمعزل عن تدخل السلطات الحكومية.
إنها علاقات عمل يتلاشى فيه العنصر الإنساني، ويصبح التعامل عبر الآلة للتعاقد وللترقية ودفع الأجر والتسريح فلا قوانين عمل تقدم ضمانات دائمة للعمالة، مما يثير لدى الإنسان العامل شعورا متزايدا بالاستفراد أمام آلة السوق وقوانينها المتوحشة أحيانا كثيرة.
فالبطالة تصبح واقعا فعليا واحتمالا يواجه الطبقة الشغيلة ويزيد من قلقها على المستقبل ومن صعوبة تخطيط الحياة العادية وعدم القدرة على تلبية مستلزمات الحياة اليومية بسهولة بمداخيل منتظمة، إذ أن خزان من البطالين ضروري لإدارة اقتصاد العولمة لتجويد الإنجاز وارتفاع الخبرات والمهارات وقلة الكلفة والقبول بشروط عمل أقل تطلبا من حيث التقديمات والضمانات.
إضافة إلى زوال بعض مهن الوسطاء كالتوزيع والتسويق والمبيعات التي أصبحت بدورها تتم عبر الإنترنت وسوق الإعلانات والمبيعات المباشرة دون الحاجة لوسطاء (سوق الاقتصاد الإلكتروني و المنافسة للوسطاء).(74)
مع العولمة الجارية للأنشطة والأعمال واجتياح الثورة المعلوماتية يزداد التركيز علىي حاجة ماسة الموارد البشرية ذات المستويات والمهارات الفنية العالية لتلبية احتياجات الوظائف في مجال الخدمات وصناعة المعلومات والإنتاج كثيف المعرفة.
لقد أصبحت الميزة التنافسية النسبية لأية دولة أو أمة تقاس بنسبة المعرفة من الناتج القومي الخام، كمعيار للتقدم ونجاح البرامج التنموية، ومنه أصبحت منظومة التعليم وخاصة مؤسسات التعليم العالي تخضع للمعايير المنتشرة في سوق العمل مثل الربحية والتنافسية والجودة، متخلية عن وظيفتها الأساسية المعهودة وهي التربية والتثقيف ونقل التراث وإعادة إنتاج الأنماط الاجتماعية السائدة.. (11)
ملامح مستقبلية
        تبدو المنظومة التعليمية التربوية  بالوطن العربي في حاجة ماسة الى توظيف مقاربات حديثة تعيد النظر في الأدوات التعليمية والمسابقات التدريسية  و المناهج التطويرية تمهيدا لاقامة مجتمع المعرفة.
 
المراجع:
(1)- الحديث عن " الغاتس GATS" (الاتفاقية العامة لتحرير التجارة والخدمات)، يجرنا إلى الحديث عن بعض المحاذير المحيطة بها نذكر أهمها:
أ. إن " الغاتس GATS" اتفاقية يحيط الغموض بتفسير قواعدها والتزاماتها الرئيسية، ووفقا للاتفاقية بأنها تنطبق على جميع الإجراءات المؤثرة في الخدمات، باستثناء الخدمات المقدمة من خلال ممارسة السلطات الحكومية لاختصاصها، وتفسر الاتفاقية هذه الفقرة بأنها تعني أن الخدمة تقوم على أساس غير تجاري، أو تكون غير خاضعة للمنافسة مع مقدمي الخدمة الآخرين، وهنا ينشأ جدل بشأن خدمات التعليم، فالبعض يرى أن التعليم الحكومي الذي تموله وتقدمه الحكومة، يستثني من أحكام الاتفاقية، بينما يرى البعض الآخر أن مقدمي الخدمة من الحكومة والقطاع العام قد لا يستثنون نظرا لأن عبارة غير تجاري وغير خاضع للمنافسة، تعد عبارات مطاطة، ويزداد التفسير تعقيدا عندما يوجد نظام عال مختلط عام وخاص وتوجد المنافسة بينهما.
ب. إن "الغاتس GATS" تهدف إلى أن تشمل أكبر عدد من قطاعات الخدمات، وعلى الرغم من حق كل دولة في تحديد التزاماتها إلا أن هناك عادة ضغوطا تمارس على الدول النامية، وهو ما يعني خضوع هذه الأخيرة أسواقها لغزو الجامعات الغربية ولإشكال التعليم العالي الأجنبي، وللاستزاد أكثر اقرأ:
- محيا زيتون، المرجع السابق، ص 280-281، (بالتصرف).       
(2)-اقرأ بهذا الصدد: ردود أفعال الأمريكولاتنيون خصوصا الباحث الفنزويلي "Carmen Gancia Guadilla" في دراسته:
-  Carmen Gancia Guadilla, «General Agreement on Trad in Services (GATS) and Higher Education in Latin America, Some :deas to contribute to the discussion», Paper Prepared for the Convention of Universities Memters of Columbus. Paris, july 2002, 21 Pages.
وكذا دراسة الباحثة " جوليا نيلسن Julia Nielson" المقدمة ضمن فعاليات ملتقى التجارة في الخدمات التعليمية باستراليا حول:
- Julia Nielson, Bridging The Divide : Building Capacity For Post- Secondary Education Through Cross-border provision. Unesco/OECD Australia Forum on Trade in Educational Services (Situating the GATS), Sydny, 11-12 November 2004, 16 Pages.
- Jane Knight, Trade In Higher Education Sevices, The Implication of GATS on higher edication. London: the observatory on bonderless higher edication, UK, 2002, pp 05-08.
(3)- مع ظاهرة تسليع الخدمات التعليمية، برزت على سطح النظام التعليمي الغربي والأمريكي جامعات الشركات، وبلغ تعدادها أكثر من 400 جامعة على مستوى العالم منذ حوالي عشر سنوات، ووصل حاليا إلى ما يتجاوز (2000 جامعة) مثل جامعة "موتورولا" التي تصل ميزانيتها إلى 120 مليون دولار، وتدير 99 موقعا للتدريب في 21 دولة، وجامعة "فونكس Phoenix University " وجامعة " بيرسن Pearson University" البريطانية، وتقدم هذه الجامعات برامج تدريبية باهضة الثمن، وخدمات تعليمية واستشارية، يمكن أن توصف هذه الظاهرة المتزايدة باضطراد بالجامعات المقاولاتية "Université entrepreneuriale" – التسمية من اقتراح الباحث بناءا على الترجمة من الفرنسية – إذ أن الجامعات أصبحت تسعى بشتى الطرق لتعظيم أرباحها والدخول في شراكة اقتصادية في مجالات متعددة، اقرأ بهذا الصدد:
- Kasper Barr Kholt, La Processus du Bologne et la Toéorie de  L’intégration : convergence et autonomie. Unesco-CEPES, Centre Européen Pour l’enseignement Supérieur, Volume XXX, Numéro 1 Mars 2005, p 30-31.
- Sorine Zaharia et Ernest gibert, « L’université entrepreneuriale dans la Société de Savoir », L’enseignent Supérieur en Eurpne, Op Cit, p 34-44.
(4)- Chems Eddine Chitour, Mondialisation L’espérance ou Le Chaos. Ed, ANEP, Alger, 2002, p149-152.
5)-  Chems Eddine Chitour, Op Cit, p152 -154.
(6)- لمياء محمد أحمد السيد، المرجع السابق، ص 90.   
(7)-Chems Eddine Chitour,Op Cit,p158.   
(8)- Op Cit, p 161.
(9)- بهذا الصدد توجد في الأردن ومصر ولبنان وبلدان الخليج علاقات ترابط وتعاون متزايدة بين جامعات ومعاهد عالية عربية ففي قطر أقيمت حديثا المدينة التعليمية، وهي منطقة حرة تضم حاليا ثلاث كليات جميعها موزع للجامعات الأمريكية، هي كلية طب جامعة كورنيل، وكلية هندسة جامعة تكساس، وكلية الفنون التشكيلية جامعة فرجينيا كومولث، وهذه الجامعات تعادل الشهادات تماما كالامريكية، كما تم افتتاح جامعة "كارنيجي ميلون Carnegie Mellon University" لدراسة علوم الحاسوب وإدارة الأعمال وذلك سنة 2005/2006م، وفي الإمارات توجد جامعات عالمية مثل جامعة "اللوتاه" في دبي، وهي تقوم بالتعاون مع عدد من المنظمات الدولية برامج جامعية في العديد من الاختصاصات العلمية، وتتواجد في مصر الجامعة الفرنسية، التي أنشئت في 2002م والجامعة الألمانية في 2002/2003م، إنه منطق السوق العالمي مع الانفتاح العالمي غير المدروس، تزايدت المؤسسات التعليمية الخاصة والعابرة للحدود، فعلى سبيل المثال وإلى غاية نهاية 2005م، يتواجد بأندونسيا أكثر من 1200 جامعة خاصة و 57 حكومية، تشكوسلوفاكيا 36 مؤسسة تعليمية جامعة خاصة و25 حكومية، كازاخستان، وبعد عامين فقط من إصدار مرسوم الجامعات الخاصة، وصل عدد جامعاتها الخاصة 65 مؤسسة، وبالمقابل لا يتواجد في بريطانيا إلا جامعة خاصة وحيدة –لحد كتابة هذه السطور- هي جامعة "Buckingham" وهو ما يجعل الدول العربية والنامية في حاجة إلى مراجعة حساباتها حتى لا تكرس مبدأ الكم على حساب منطق الجودة والنوعية.       
(10)- مصطفى حجازي، الصحة النفسية، منظور دينامي وتكاملي للنمو في البيت والمدرسة. ط1، الدار البيضاء- المغرب وبيروت- لبنان: المركز الثقافي العربي، 2000م، ص 304-307.
(11)- مصطفى حجازي، المرجع السابق، ص307-311.
(12)- لمياء محمد أحمد السيد، المرجع السابق، ص 94-


المصدر : http://www.arabthought.org/node/655 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق