الاثنين، 17 أكتوبر 2011

ثقافة الديمقراطية كمعبر للعدالة الانتقالية


د بوحنية قوي
الدراسة منشورة في مجلة الديمقراطية الصادرة عن مركز الاهرام للدراسات الاستراتيجية 

تبدو عملية استقراء الثورات‏,‏ ومقاربتها عملية تفكيكية صعبة‏,‏ فهي تتطلب أدوات منهجية‏,‏ ومنهجا ابستمولوجيا‏,‏ لا يتوقف عند قراءة الحاضر‏,‏ بل يمارس تجميع الأدوات الإحصائية والمعطيات الاقتصادية والاجتماعية لتشكيل رؤية‏vision))‏ علمية‏,‏ لأن الثورة لا تقاس عمليا باللحظة الراهنة وإلا أضحت عملية إجرائية تقيس نشاطا عاديا‏,‏ وإنما تتطلب مراسا منهجيا يتعامل مع الثورة ــ ومنها الثورات العربية الحديثة في تونس ومصر ــ بمنطلق بناء المؤسسات‏,‏ وإعادة صياغة الأيدولوجيا‏,‏ لأن قوة الثورة من قوة بناء المؤسسات‏,‏ و هذه القوة بدورها تتطلب ثقافة سياسية‏(politicalculture)‏ تنويرية وروح مواطنة عالية‏(highlevelcitizenship)‏ يتجاوز الجهويات الضيقة‏,‏ والمناطقيات المحدودة‏.‏

'‏ إن عملية بناء المؤسسات تعني بلوغ الثورة إلي مستوي معين من التكوين النظامي سواء في ما يتعلق بمؤسساته الرسمية أو الطوعية‏,‏ إذ أن العملية السياسية لا تجري إلا من خلال منظمات وإجراءات سياسية وبقدر ما تصبح هذه المنظمات والإجراءات أنماطا من السلوك الدائم والمتواتر والمعترف به تصير مؤسسات سياسية وتلك هي فلسفة الثورة‏,‏ وقوتها‏,‏ وسير ديمومتها‏'.(1)‏

يرتبط فهم الثورات العربية الحديثة في تونس ومصر تحديدا بإدراك الأنساق التالية‏:‏

‏1‏ـ النسق البنائي‏:‏ الذي يهتم بعملية البناء‏(‏ بناء المنظمات والمؤسسات ــ بناء الأحزاب ــ و بناء المجتمع المدني‏),‏ وهي عملية ديناميكية تتطلب إعادة هندسة البناء السياسي والاجتماعي للسلطة وأدواتها‏.‏

‏2‏ ـ النسق الأيديولوجي والفكري‏:‏ فالثورة ترتبط بالديمقراطية والديمقراطية تزداد وتيرتها بترسيخ قيم المواطنة والتكامل بين الصفوة والمجتمع‏,‏ و إعادة تشكيل أسس التنمية السياسية لإقامة مبادئ الشرعية والمشروعية‏,‏وصولا إلي إرساء مبادئ الحكامة الجيدة‏.‏

‏3‏ـ النسق التفاعلي‏:‏ ليست الثورة عملية داخلية صرفة‏,‏ كما أنها ليست عملية ضغط خارجي‏,‏ إنما عملية يستقيم عودها عندما تتهيأ التربة الداخلية لاستنبات الديمقراطية‏,‏ كما أنها ديناميكية ومسار يتكيف مع المحيط الخارجي في ظل ثقافة كوكبية ترتبط بمفاهيم التشبيك‏(
Networking)‏ ومقاربات الاعتماد المتبادل‏((Interdependency.‏ بهذا الصدد يلاحظ أن الفكر السياسي الأمريكي يؤكد في عمومياته التنظيرية أن الديمقراطيات أسرة واحدة ومنسجمة‏,‏ وإن أفضل وسيلة لتأمين السلم الدولي هي كسر الاستبداد ونشر الديمقراطية‏.‏ بيد أن تجربة الأنظمة الديمقراطية الجديدة في أمريكا اللاتينية والدول العربية أثبتت لواشنطن زيف العلاقة الائتلافية العضوية بين‏'‏ القطب الديمقراطي الأكبر‏',‏ والهوامش الديمقراطية الجنوبية الناشئة‏,‏ التي عادة ما تفضي فيها الإرادة الشعبية إلي صعود القوي الأيديولوجية والسياسية المناوئة لنفوذ وسياسات الولايات المتحدة‏.‏ فلا عبرة بتكرار تجربتي أوروبا الغربية واليابان في علاقتهما بحليفهما الأمريكي الذي تقاسمتا معه المصالح الجيوسياسية والاقتصادية في سياقات تاريخية معروفة‏,‏ لقد طرح علي العقل السياسي الأمريكي أسئلة عصية‏,‏ يتعلق بعضها بمدي قابلية استنبات الديمقراطية في سياقات ثقافية غير ليبرالية‏,‏ ويتعلق البعض الآخر باتهام الإسلام بالانغلاق والاستبدادية مما يفضي إلي‏'‏ اغتيال‏'‏ كل أفق ديمقراطي بأدوات الديمقراطية‏(‏ أي الانتخابات التعددية الحرة‏).‏
ومن الواضح أن الإدارة الأمريكية الحالية تراهن في المناخ الثوري الجديد علي بروز تشكيلات إسلامية معتدلة وليبرالية علي غرار حزب‏'‏ العدالة والتنمية‏'‏ التركي قادرة علي الدخول في‏'‏ توافق الحد الأدني‏',(‏ الديمقراطية التعددية دون انهيار التوازنات الاستراتيجية الأساسية في المنطقة‏).(2)‏

في فلسفة الثورة‏:‏

الثورة المصرية ــ كما هو الأمر بالنسبة للثورة التونسية ــ كانت حسب إبراهيم أبراش‏'‏ ثورة كل الشعب‏,‏ ثورة الشاب خريج الجامعة الذي لا يجد عملا‏,‏ وثورة الشاب الذي لا يجد شقة ليتزوج بها‏,‏ وثورة العامل الذي يتقاضي جنيهات لا تكفي لشراء الخبز فكيف باللحمة التي لا يتذوقها إلا بالأعياد‏,‏ ثورة الطبيب والمهندس وأستاذ الجامعة الذين يتقاضون راتبا بالكاد يكفيهم أجرة مواصلات وسكن‏,‏ ثورة كل مواطن أجبر أن يتحول لخادم للسياح العرب والأجانب الذين يدرون دخلا بملايين الدولارات سنويا تذهب لحساب شركات السياحة المملوكة لوزير السياحة ومافيات صناعة السياحة ولدعم أجهزة القمع الرسمية‏,‏ ثورة كل مواطن يقف بالطابور لساعات حتي يحصل علي خبز أو مواد تموين مدعومة‏,‏ ثورة كل مواطن تمتهن كرامته كل يوم علي يد رجال الأمن والشرطة والمخابرات‏,‏ثورة ملايين العائلات التي تعيش بعيدا عن عائلها الذي اضطر ليعيش في الغربة لسنوات حياة شقاء لا تخلو أحيانا من إذلال حتي يوفر لأفراد أسرته الحد الأدني من العيش الكريم‏,‏ ثورة التاجر الصغير وأصحاب المصانع والورش الصغيرة الذين سحقتهم مافيا شركات رجال الأعمال الكبار المحسوبين علي الحزب الحاكم والعائلة الحاكمة‏.‏ إنها ثورة كل مواطن أذله القهر وامتهان الكرامة‏.‏الثورة بهذا المعني فعل مركب ومعقد ونجاحها بكل أبعادها مرهون بإعادة بناء النظام السياسي والاجتماعي بما يحقق مطالب كل فئات الشعب‏:‏العمال والفلاحون والمثقفون والطلاب والنساء الخ‏,‏أو علي الأقل يعطبهم أملا بان غدهم سيكون أفضل من يومهم‏'.(3)‏

لقد شهدت غالبية المجتمعات عبر التاريخ تحركات شعبية واسعة إلا أنها تفاوتت سواء في الحوامل الاجتماعية للثورة أو من حيث درجة العنف المصاحبة للثورة أو من حيث نتائجها وقدرتها علي تحقيق أهدافها‏,‏ كثير من التحركات الشعبية التي نعتها أصحابها بالثورة إما كانت محدودة الأهداف أو فشلت في تحقيق أهدافها وبعضها كان أقرب لحالات الفتنة والفوضي مما هي ثورة‏.‏ دون التقليل من أهمية أي تحرك أو انتفاضة شعبية ودون الغوص بالجدل حول توصيف الحركات السياسية في التاريخ الإسلامي فإن أهم الثورات الناجحة ما بعد الحروب الدينية التي شهدنها أوروبا هي‏:-‏

‏1‏ـ الثورة البريطانية‏1688‏ وقامت ضد حكم آل ستيورت

‏2‏ ـ الثورة الأمريكية‏1773‏ ــ‏1784,‏ وهي ثورة اجتماعية وتحررية في نفس الوقت‏.‏

‏3‏ ـ الثورة الفرنسية‏1789‏ ــ‏1799.‏

‏4‏ ـ الثورة الإيطالية‏1884.‏

‏5‏ ــ الثورة البلشفية‏1917‏ في روسيا ضد الحكم القيصري‏.‏

‏6‏ ــ الثورة الصينية بقيادة ماو تسي تونج‏1949‏ التي أطاحت بنظام شيانج كاي شيك‏.‏

‏7‏ ــ ثورة يوليو‏1952‏ في مصر‏,‏ مع أن جدلا ثار وما زال إن كانت ثورة أم انقلاب عسكري‏.‏

‏8‏ ــ الثورة الكوبية‏1959‏ التي قادها فيدل كاسترو ضد حكم الدكتاتور باتستا‏.‏

‏9‏ ــ الثورة الإيرانية الخمينية‏1979‏ التي أسقطت الشاه محمد رضا بهلوي

‏10‏ــ ثورات شعوب أوروبا الشرقية بدءا من عام‏1989‏ التي أطاحت بالأنظمة الشيوعية‏.‏

‏11‏ ــ الثورة البرتقالية في أوكرانيا‏.2004‏

‏12‏ ــ الثورة في قيرغزستان‏(2004)(4)2005‏ ــ‏2010.‏

وهنا يمكن التمييز بين نوعين من الثورات‏:‏

النوع الأول من الثورات يمكن تسميته ثورات‏'‏ تأسيسية‏'
FoundationalRevolutions‏ أو عظمي كونها لا تمحو بنية سياسية واجتماعية واقتصادية قديمة فحسب‏,‏ وإنما تضع الأساس لبنية جديدة لا يمكن محوها إلا بثورة أخري أكثر قوة وتأثيرا‏.‏ أما النوع الثاني فيطلق عليه مسمي‏'‏ ثورات تحويلية‏'TransformationalRevolutions‏ أي أنها ثورات مهمة تقوم بتحويل المجتمع ونقله من وضع إلي آخر‏,‏ ولكنها لا تتمتع بالديمومة والاستمرار لأسباب مختلفة بعضها أيديولوجي‏,‏ والبعض الآخر سياسي واستراتيجي‏.(5)‏
والثورة في عمقها وأبعادها ونواتجها يفترض أن تكون تأسيسية حتي تستطيع أهداف السياسات العامة لإعادة بناء الدولة والمجتمع‏.‏

هناك عدد من العناصر المشتركة بين الثورات العربية‏,‏ وتلك الثورات الديمقراطية أهمها‏:‏

‏1‏ ــ الطابع الشبابي لتلك الثورات‏,‏ فكلها بدأت كإنتفاضة شبابية سرعان ما انضم إليها الشعب للتحول إلي ثورة شاملة‏.‏ ويمكننا أن نقارن بين حركات مثل‏'‏ شباب‏6‏ إبريل‏'‏ و‏'‏ شباب من أجل العدالة والحرية‏'‏ و‏'‏حركة كفاية‏'.‏ في المقابل هناك حركات مشابهة مثل‏'‏ أوتيور‏'‏ في صربيا‏,‏ و‏'‏ كمارا‏'‏ في جورجيا‏,‏ و‏'‏ بورا‏'‏ في قيرغزستان‏.‏

‏2‏ ـ الطابع السلمي لتلك الثورات‏.‏

‏3‏ ـ التوسع في استخدام المنتجات التكنولوجية الحديثة‏,‏ الموبايلات في بدايات القرن‏,‏ وشبكة التواصل الإجتماعية‏(‏ الفيس بوك والتويتر‏)‏ في الحالتين المصرية والتونسية‏,‏ وأيضا في مولدافيا عام‏2009‏ م‏.‏

‏4‏ ـ السيولة التنظيمية وافتقاد الكيان السياسي المتماسك والقيادات ذات الكاريزما‏.‏ وبالتالي لم تتكمن تلك الحركات السياسية من تنظيم حزب كبير قوي يعبر عن أهداف الثورة‏,‏ وكان هذا سببا في ارتباك تلك الثورات‏,‏ وبالتالي تعثر التحول الديمقراطي‏.‏ ولعل من الجدير بالتأمل أن الثورة البرتقالية في أوكرانيا ضد الرئيس‏'‏ يانكوفيتش‏'‏ التي ألهمت الجميع‏,‏ قد انتهت بعودة نفس الرئيس‏'‏ يانكوفيتش‏'‏ إلي الحكم نتيجة انتخابات ديمقراطية حرة تمت عام‏2010‏ أي بعد ست سنوات من الثورة الشعبية ضده‏!.‏ أما حركة‏'‏ كمارا‏'‏ أو‏'‏ كفاية‏'‏ الجورجية‏,‏ فقد ذابت في تكتل شمولي أقامه الرئيس الجورجي‏'‏ سكاشفيللي‏',‏ لتعيد إنتاج نفس النظام الشمولي الذي ثارت ضده‏.‏

‏5‏ ـ عدم وجود قطيعة أيديولوجية مع النظام الذي ثارت ضده‏,‏ نتيجة أنها ثورات ديمقراطية بلا عقائد أيديولوجية مخالفة‏.‏ وهذا الأمر يختلف كلية عن الثورات التاريخية السابقة‏,‏ وهو يتطلب إعادة تشكيل رؤية أيديولوجية واضحة‏.‏

و قياسا علي التجارب الثورية المشابهة‏,‏ والإنتفاضات المناظرة يمكن إبراز السيناريوهات التالية‏:‏

‏1‏ ـ يمكن أن تؤدي الانتفاضات الثورية الديمقراطية إلي تغيرات سياسية أساسية‏,‏ ولكنها لن تؤدي إلي تغيرات اجتماعية أو اقتصادية كبيرة لغياب البعد الأيديولوجي‏.‏

‏2‏ ـ وجود تداخل بين النظامين ما قبل الثورة وما بعدها‏,‏ واستمرار عدد كبير من الشخصيات السياسية متصدرة الواجهة السياسية‏.‏ وفي أسوأ الحالات يمكن للثورة إعادة إنتاج النظام السابق بوجوه جديدة‏.‏

‏3‏ ـ إمكانية عودة النظام الذي تم إسقاطه‏_‏ ديموقراطيا‏-‏ مع بعض التعديلات الشكلية غالبا‏.‏

‏4‏ ـ لن يمكن للقوي الثورية الآن ولا في المستقبل تنظيم نفسها في كيان سياسي واحد‏,‏ فأهداف مثل هذه الثورات الديمقراطية هي مجرد إسقاط النظام دون امتلاك رؤية محددة لكيفة بناء نظام جديد‏,‏ وبالتالي فأهداف الثورة تتحقق بمجرد إسقاط النظام‏,‏ وسيترك واجب إقامة النظام الجديد للقوي القديمة التي يمكنها النجاة بنفسها من مقصلة الثورة‏.‏

‏5‏ ـ ترجح بعض السيناريوهات نتيجة غياب القيادة المسيطرة علي الحركة الثورية فستكون الفوضي بديلا قائما وبفرص عالية جدا‏,‏ وكنتيجة استمرار الحالة الثورية بلا نهاية‏.‏ الآن تظهر ثقافة التغيير عن طريق الحشد والتجييش بحيث يصبحان فنا قائما بذاته‏,‏ وتختفي وتشحب سلطة القانون والنظام‏,‏ خاصة في مجتمعات فقيرة حديثة العهد بالحرية‏,‏ تفتقد التقاليد الثقافية التي تجعل من النظام غريزة جماهيرية‏(‏ نلاحظ بهذا الصدد التجربة اليمنية والحالة الليبية‏).‏

‏6‏ ـ الثورات القديمة كانت تعرف متي تتوقف لتصبح نظاما نتيجة وجود القيادة الحاكمة‏,‏ أما الآن فسيكون التثاقل الذاتي وعودة السلطات القديمة وحدهما ما يمكن أن يوقفا الفوضي‏.(6)‏

ورغم ما سبق فإن الثورات العربية تحمل في طياتها شيئا جديدا تماما وغير مسبوق في الخبرة التاريخية العربية علي الأقل‏,‏ وبالنظر لجدتها ونتائجها فهي مرحلة جديدة في تاريخ هذه الأمة كذلك‏.‏ ولعل عناصر هذه الجدة تبرز علي ثلاث مستويات‏;‏ الأول‏:‏ طبيعتها السلمية‏,‏ بحيث خرجت الملايين في مصر وتونس خاصة‏,‏ دون عنف‏.‏ ولولا عنف الدولة ووسائل قمعها لما سقط الشهداء الذين سقطوا‏.‏ ويكاد الواقع نفسه ينطبق علي المسيرات التي خرجت في الأردن والبحرين واليمن والمغرب والعراق‏,‏ باستثناء ليبيا وسوريا‏.‏ والمستوي الثاني‏,‏ أنها خرجت في منطقة من العالم اعتقد البعض تحت تأثيرات معرفية استشراقية أنها عصية علي الفهم وجامدة عن كل تحول‏,‏ مما أنتج الاستهانة بشعوبها‏.‏ والأخير أنها تقدم مداخل جديدة للتيارات والحركات الإصلاحية والتغييرية للعمل بآليات سلمية ولكن فعالة‏,‏ سواء لمن اختار التغيير من داخل النظام أو لمن اختار التغيير من خارجه‏.(7)‏
و في الحقيقة فإنه قبل الثورة التونسية كان يشار إلي مصر وتونس والمغرب والجزائر وسوريا والسودان وإيران باعتبارها مظانا لثورات شعبية‏,‏ مع الفروق الشاسعة بين أنواع هذه الثورات وانعكاساتها‏.‏ ففي المغرب لا يرتبط التذمر الاجتماعي بحالة عدائية شعبية ظاهرة ضد النظام الملكي‏,‏ وفي سوريا يمكن لثورة تطيح بالنظام أن تفجر الصراعات الطائفية والعرقية لصالح إسرائيل وإيران‏,‏ أما الجزائر فإنها تفلح في امتصاص التذمر بإنفاقها الاجتماعي وبالسماح بحرية التعبير‏.‏ أما الملكيات العربية فإنها دول رفاهية لا تتألم فيها الشرائح الوسطي كثيرا‏,‏ وليس للمعذبين فيها حق المواطنة‏.‏ ومهما يكن من أمر فإن الثورات العربية القادمة ستندلع من الدول التي توجد بها طبقات واسعة مفقرة بفعل الأزمات الغذائية‏,‏ وبفعل سياسات انسحاب الدولة‏,‏ والتي تسود فيها الأوليجاركية بشكل زائد‏.‏
أما المسألة الثانية التي ينبغي ملاحظتها في هذا الإطار فهي أن الثورات الشعبية ليست جديدة علي المنطقة العربية‏,‏ بل إن الأنظمة القائمة في معظم هذه الدول قادمة من خلال ثورات شعبية قوية في بدايات القرن العشرين‏.‏ ورغم أن الكثيرين أشاروا إلي الثورة التونسية باعتبارها أول ثورة عربية شعبية إلا أن تاريخ الثورة الشعبية عريق في دول تبدو الآن بعيدة عن كل حس ثوري في سوريا والعراق ومصر والسودان‏,‏ هذا إضافة إلي عشرات الانتفاضات التي لم تكتب لها فرصة النجاح في كل العالم العربي والإسلامي‏.(8)‏
الجديد الآن في الثورة التونسية والمصرية الجديدتان وتحديدا‏,‏ هو غياب الدور الغربي‏.‏ إذ تمر أمريكا بمنعرج سلطوي مهم‏,‏ ويبدو أن النظام فيها لم يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه في تونس ومصر‏.‏ وإلي حد الآن لم يحدث حراك غربي لتفادي السيناريوهات المحتملة من انفلات المنطقة وظهور قوي معادية للمصالح الغربية‏,‏ الاقتصادية والسياسية فيها‏.‏ ربما مازال الوقت مبكرا للجزم بهذا‏,‏ وربما تدور تحركات كهذه بالفعل في الكواليس ولكن السكوت العلني أمام مخاطر ظهور قوي كانت تثير الرعب إلي حد الآن يعتبر انتصارا تاريخيا في حد ذاته‏,‏ ويجب استغلاله في بقية المنطقة‏.(9)‏

ويمكن إبراز أهم ملامح نضوج الوعي الديمقراطي العربي في أربع نقاط رئيسية‏:‏

أولها‏,‏ زيادة الطلب علي منظومة الحريات الأساسية كحرية التعبير وحرية التجمع وحرية التظاهر وحرية العمل السياسي‏.‏ والمثير هنا أن هذا المطلب لم يعد مطلبا نخبويا‏,‏ وإنما بات أشبه بثقافة تنتقل من فئة إلي أخري‏,‏ ومن طبقة إلي غيرها‏,‏ كما لو أنه‏'‏ بقعة زيت‏'‏ تنتشر تدريجيا عبر وسائل الإعلام‏,‏ ومن خلال الشبكة العنكبوتية‏.‏

ثانيها‏,‏ الانخراط الثقيل للأنتلجنسيا العربية في عملية التغيير‏,‏ ودخول رموز فكرية وثقافية ظلت لفترة طويلة علي الحياد‏,‏ إلي ساحة النضال السياسي‏.‏ واللافت أن هؤلاء جميعا دخلوا المعترك السياسي من الباب‏'‏ الشعبي‏'‏ وليس عبر الأحزاب التقليدية‏,‏ فضلا عن إصرارهم علي إكمال‏'‏ مشوار‏'‏ التغيير مهما يكن الثمن كما حدث في مصر وتونس واليمن والأردن‏.‏

ثالثها‏,‏ زيادة المناعة الاحتجاجية لدي شباب المعارضة الجديدة‏,‏ وتراجع ثقافة‏'‏ الخوف والرهبة‏'‏ من السلطة تدريجيا‏,‏ وهي مناعة تزداد تجذرا كلما زادت درجة القمع وليس العكس‏.‏ وهنا لم تسقط وظيفة‏'‏ الردع‏'‏ لعنف الدولة فحسب‏,‏ وإنما أيضا بات اللجوء إليه أشبه بمغامرة باهظة الثمن‏.‏ وما تشهده مصر حاليا يشي بإمكانية حدوث ذلك‏,‏ وسيكون خطأ تاريخيا إذا لجأت الحكومة المصرية لإطلاق الرصاص‏'‏ الحي‏'‏ علي المعارضين علي نحو ما طالب به بعض نواب الحزب الحاكم قبل أيام من اندلاع الثورة المصرية‏,‏ فهذا ما يريده المعارضون من أجل إشعال ثورتهم المكتومة‏.‏

رابعا‏,‏ هو تلك المسافة الفاصلة بين حركات المعارضة العربية والدعم الخارجي بشأن تحقيق الديمقراطية‏.‏ وأهمية ذلك ليس فقط إسقاط أية دعاوي أو اتهامات بالعمالة والتآمر مع الخارج علي نحو ما جرت العادة‏,‏ وإنما بالأساس في إدراك المعارضة العربية الجديدة أن مسألة التغيير هي واجب وطني محض يجب القيام به دون التعويل علي الدعم الخارجي‏.(10)‏

الثورات العربية والعبور للعدالة الانتقالية‏:‏

هناك ملامح إيجابية تنبئ عن مقومات تجديف ناجحة لعبور العدالة الانتقالية تبرز كما يلي‏:‏

أولا‏,‏ أن هذه الثورات أو الهبات تتجاوز ليس فقط الأطر الكلاسيكية للتنظيمات والجماعات السياسية العربية‏,‏ وإنما أيضا المقولات السياسية والأيديولوجية التقليدية‏,‏ وهي هنا ليست ثورات موجهة ضد الأنظمة السلطوية فحسب وإنما أيضا ضد معارضيها ونخبها‏,‏ وهي هنا أشبه بعملية تطهير للنخبة السياسية القائمة بشكل جذري‏,‏ بكلمات أخري‏,‏ حين تقوم الثورات فإنها لا تنهي فقط شرعية الأنظمة السلطوية وإنما أيضا تنهي معها شرعية المعارضات السياسية التي تجاوزتها الكتل الاجتماعية التي تشكل القلب النابض لهذه الثورات‏,‏ ويصبح من غير المقبول بعد سقوط الأنظمة السلطوية أن تسعي قوي المعارضة إلي حصد ثمار الثورات وامتطائها من أجل تحقيق مكاسب سياسية وحزبية‏.‏

ثانيا‏,‏ تتميز الثورات العربية بغياب قيادات أو رؤوس منظمة ومحركة لها بشكل عمودي‏,‏ ولعل هذا أحد أسباب قوتها ونجاحها‏-‏ وعلي عكس النظرة المتشائمة التي تري في التحرك غيابا لقوي وقيادات كاريزماتية‏-‏ ففي الحالة التونسية لم تكن هناك قيادة موحدة للثورة‏,‏ وإن كانت هناك جماعات عمالية ومهنية تغذي الثورة بدماء جديدة‏.‏ وفي الحالة المصرية‏,‏ وهنا يبدو الأمر مدهشا‏,‏ لم توجد قيادة موحدة للثورة ولا حركة تنظيمية تغذيها بشكل مؤطر‏,‏ وإنما كانت هناك جماعات تتحرك بشكل أفقي وتتلامس مع بعضها في دوائر أفقية سوف يعرف الكثير عنها مستقبلا‏.‏ أما في الحالة الليبية‏,‏ فيبدو الأمر حتي هذه اللحظة أكثر ضبابية‏,‏ وإن كانت أقرب لانتفاضة عفوية تحركها مظالم تاريخية ونفسية انفجرت بشكل فجائي وهائل‏.‏

ثالثا‏,‏ هذه الثورات لا تستهدف فقط خلع الأنظمة السلطوية العربية‏,‏ وإنما أيضا تسعي لتأسيس نظم وجمهوريات جديدة علي أسس ديمقراطية سليمة‏.‏ وهنا تبدو المفارقة مذهلة‏,‏ فعلي مدار العقود الماضية كان الخطاب الرسمي العربي يمارس جميع أنواع التشويه ضد فكرة الديمقراطية‏,‏ وكان الإعلام السلطوي يزاوج بخبث بين مسألتي الديمقراطية والعلمانية إلي الدرجة التي بات مجرد ذكرهما أشبه بالوقوع في الخطيئة‏,‏ وهو ما ترك أثرا سلبيا لدي قطاعات واسعة من الجمهور العربي بمن فيه بعض المثقفين ورجال الدين الكلاسيكيين تجاه المسألة الديمقراطية‏.‏ لذا‏,‏ فقد كان مدهشا أن نري وجوها مصرية وتونسية تخطها تجاعيد الشيخوخة تنادي بالديمقراطية والحرية‏.‏

رابعا‏,‏ هذه الثورات لا تعترف بخطوط حمراء‏,‏ ولا تلتزم بقواعد اللعبة السياسية التقليدية‏,‏ فهي عندما تشتعل ترفض فكرة الحلول الوسط‏,‏ وكأنها تسير في طريق ذي اتجاه واحد هدفه رأس النظام‏.‏ من هنا يبدو الإصرار علي إكمال الطريق حتي آخره أمرا بديهيا ولو دفعت في سبيله الغالي والنفيس‏.‏ وقد سمعنا وشاهدنا عبر الفضائيات قصصا عن مواطنين بسطاء دفعوا بأبنائهم للتضحية في سبيل الحرية‏,‏ وهو ما يعد تحولا نوعيا في بنية العقل العربي فيما يخص مفاهيم التضحية والاستشهاد‏,‏ يتطلب التوقف أمامه وإدراك دلالاته ومغزاه‏.‏

خامسا‏,‏ والأهم‏,‏ أن هذه الثورات لا تعبأ كثيرا بحسابات القوي والأطراف الخارجية‏,‏ ولا تعول علي دعم هذا الطرف أو ذاك‏,‏ بل علي العكس فقد كشفت الثورتان المصرية والتونسية وأخيرا الليبية أن القوي الغربية تمثل عقبة في وجه الثوار إما بسبب دعمها وحمايتها للأنظمة السلطوية أو نتيجة لصمتها علي ما تقترفه من جرائم في حق مواطنيها كما هي الحال الآن في ليبيا‏.‏ وقد أسقطت هذه الثورات كل أقنعة الزيف والازدواجية الأخلاقية والقيمية الغربية بعد أن وصل الأمر أحيانا إلي حد التواطؤ الصريح في دعم بقاء هذه الأنظمة السلطوية علي قيم ومبادئ الحرية والديمقراطية كما كان الحال في تونس حين عرضت وزيرة الخارجية الفرنسية ميشيل إليو ماري تدريب قوات الشرطة التونسية لقمع المتظاهرين‏.‏

سادسا‏,‏ فإن انفجار الثورات العربية علي هذا النحو المثير قد يبدو كافيا وشافيا لفهم ما حدث للمجتمعات العربية خلال نصف القرن الماضي‏,‏ وما اقترفته أنظمة ما بعد الاستقلال من خطايا في حق شعوبها‏.‏ فقد تم تغييب وتهميش العقول والثقافة العربية لصالح بناء دولة الفرد الواحد‏,‏ والنظام الواحد تحت شعار الحلم الواحد‏,‏ فكانت النتيجة هي أنظمة سلطوية أحادية لا تقبل الخروج من السلطة أو المشاركة فيها‏,‏ وإذا قرر الشعب أن يعترض أو يثور يجري ضربه بالرصاص وقنابل الغاز والطائرات الحربية دون شفقة‏.(11)‏

أفاق الانتقال للديمقراطية‏:

إن الديمقراطية ليست نزوة أو رغبة ولكنها سيرورة حضارية شاملة وفي جميع الصعد‏,‏ ومن الصعوبة بمكان ممارسة الديمقراطية في البلدان التي قد تطبعت منذ قرون علي التسلط والفردية والشمولية‏,‏ وفي ظل انعدام التراث الديمقراطي وانعدام مبدأ التسامح في الرأي والمعتقد والتفكير والتعدد‏,‏ فالمسألة تحتاج إلي وقت ونفس طويل حتي تستقيم الديمقراطية في البلدان النامية علي قدميها‏.‏
إذ يمكن ممارسة الديمقراطية حتي في أحلك الظروف‏,‏ وهذا يتوقف علي مدي جدية القوي الفاعلة في الساحة السياسية واقتناع الهيئات ودرجة ثقافتها وإيمانها بالتعدد السياسي والاجتماعي والثقافي وبالمشاركة في الإدارة والحياة العامة‏,‏ وبالتداول السلمي للسلطة وبدور فعالية الهيئات النظامية في القيام بواجباتها‏,‏ وذلك بضبط إيقاع الحياة بأطيافها المختلفة بصورة عادلة ومتقنة‏.‏
إذ أن تطور النهج الديمقراطي في البلدان النامية مرهون بمدي توافر وتطور عدد من المسائل الجوهرية ومنها‏:‏

‏1‏ ـ اقتناع الهيئات النظامية والقوي المتنفذة بالديمقراطية والتناوب السلمي للسلطة‏.‏

‏2‏ـ تثبيت أركان الدولة العادلة والديمقراطية المستندة إلي الشرعية الدستورية والقانونية‏.‏

‏3‏ـ الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي والحياتي‏.‏

‏4‏ ـ التطور الاقتصادي والاستقرار المعيشي‏.‏

‏5‏ـ شيوع التعليم والثقافة‏,‏ وازدياد مستوي الإدراك لدي عامة الناس‏.‏

‏6‏ـ فصل السلطات وألا تغطي السلطة التنفيذية علي السلطتين التشريعية والقضائية‏.‏

‏7‏ـ فعالية هيئات المجتمع المدني وممارساتها للديمقراطية ضمن أطرها كنموذج يحتذي به في المجتمع‏.‏

‏8‏ ـ سيادة الدستور والنظام والقانون‏.‏

‏9‏ ـ الانتخابات الديمقراطية النزيهة للهيئات الرسمية والأهلية والمدنية‏.‏

‏10‏ـ المواطنة المتساوية‏,‏ وسمو سلطة العدالة علي سلطة القوة والهيمنة‏.‏

‏11‏ـ تحييد مؤسسات القوة‏(‏ الجيش والأمن‏)‏ وجعل هذه المؤسسات وطنية لا تتبع الأحزاب ولا تتدخل في الصراعات الانتخابية والسياسية إلا تبعا لما تقتضيه المصلحة الوطنية ولحماية الدستور والقوانين والشرعية والهيئات المنتخبة‏.‏

‏12‏ـ إحترام حقوق الإنسان‏.‏

‏13‏ـ حرية الرأي والقول والعقيدة وتداول المعلومات وحرية الصحافة والإعلام والثقافة والاجتهاد والانتقام المحتشم والهادف واحترام الرأي والرأي الاخر‏.‏

‏14‏ ـ احترام التعددية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية‏.‏

‏15‏ـ الاعتراف بمبدأ الأغلبية في الحكم واحترام حق الأقلية في المعارضة‏.‏

‏16‏ـ فعالية المؤسسات المدنية والسياسية وحرية نشاطها‏.‏

‏17‏ ـ نزاهة واستقلالية القضاء وعدم تدخل في أحكامه حتي لا يفسد العدل‏.‏

‏18‏ ـ تثقيف وتوعية المرأة كناشطة في مسرح الحياة الديمقراطية وتفعيل دورها الديمقراطي‏.‏

‏19‏ـ التقليل من المركزية الشديدة‏,‏ ومنح الصلاحيات للجهات المختصة الوسطية‏,‏ والتحتية للقيام بأعمالها دون تدخل من المركزي لأنه في السياسة ليس المهم أن تكون هناك مناصب كثيرة‏,‏ بل المهم كيف نستخدم هذه المناصب بشكل جيد‏.‏ وهذا يحتاج لعلم سياسي وثقافة سياسية‏,‏ ليس المهم أن تكون هناك مناصب كثيرة‏,‏ بل المهم كيف نستخدم هذه المناصب بشكل جيد‏.‏ وهذا يحتاج لعلم سياسي وثقافة سياسية‏,‏ ليس المهم التدخل في الكثير من الأمور‏,‏ بل المهم إدارتها ببراعة‏.‏

‏20‏ـ إن الأمان والاستقرار دعامتان رئيسيتان لكل نظام اجتماعي‏,‏ لأنه لا يمكن للديمقراطية أن تنتصر في أي بلد إلا إذا تحولت إلي نظام راسخ قادر علي أن يحقق الاستقرار الذي يسمح بتطور الاستثمار بوجود تنمية‏,‏ بتطور المبادرات الفردية‏,‏ بتطور اقتصادي حقيقي‏,‏ إذا بقينا في الصراعات فستفشل الديمقراطية وهذا ما يريده من لا يريدون للديمقراطية أن تنتصر‏.(12)‏
إن بناء قواتأمنية وعسكرية وشرطية تتميز بالاحترافية وعدم التميز وتسيير نفسها بنفسها في إطار من النزاهة يستلزم اتباع منهج شامل تجاه الإصلاح المؤسساتي‏(‏ مثلا الإصلاح الذي يخص التوظيف‏,‏ وإعادة التدريب‏,‏ وإعادة الهيكلة والتدبير‏/‏ كتابة التقارير وتدابير المراقبة‏)‏ ولذا تبدو خطة إصلاح الأجهزة الأمنية متكونة من ثلاث نقاط وتهدف إلي‏:‏

ــ إعادة هيكلة شرطة مابعد الحكم الدكتاتوري‏.‏

ــ الإصلاح بتطبيق إجراءات جديدة في التدريب والاختيار ومنح الشهادات‏.‏

ــ اتباع أسلوب ديمقراطي من خلال إنشاء قوات شرطة لا تخضع للأمور السياسية‏,‏ ونزيهة‏,‏ وقابلة للمحاسبة‏,‏ ومتعددة الإثنيات‏,‏ وتؤمن بمبادئ شرطة المجموعة‏.‏

ويمكن أن تتضمن أية استراتيجيات شاملة مجموعة من العناصر‏,‏ منها تبني ميثاق أخلاقي مؤسساتي‏,‏ والعمل علي تعليم الجمهور‏,‏ إعادة تدريب الشرطة علي إجراءات سياسية جديدة‏.‏ وتطبيق إجراءات إدارية وتواصلية وتدبيرية لتشجيع الشفافية والمراقبة‏,‏ وتطبيق إجراءات تأدبية لضمان الانضباط وتوفير وسائل الشكاية والتقويم‏,‏ ومراجعة إجراءات التوظيف لتشجيع هذه الأجهزة بحيث تكون جميع الطوائف ممثلة فيها بدون تمييز‏.(13)‏
تبدو إعادة هيكلة بناء ثقافة سياسية تتماشي ومعابر‏'‏ العدالة الانتقالية‏'‏ عملية ضرورية‏,'‏إنها القيم والمعتقدات والإتجاهات العاطفية للأفراد حيال كل ما يتعلق بعالم السياسة‏',‏ وهي تؤدي دورا محوريا في تشكيل الوعي السياسي للجماعات والأفراد‏,‏بما يقوي عناصر الانتماء الوطني‏,‏وتشكل أوامر متينة في العلاقة بين الدولة والنظام السياسي‏,‏ والمواطن مضمون الحقوق دستوريا وإجتماعيا‏.‏

الهوامش‏:‏

‏1‏ـ السيد عبد الحليم الزيات‏,‏ التنمية السياسية‏,‏ دراسة في علم الاجتماع السياسي‏,‏ الجزء الثاني‏(‏ البنة والاهداف‏)‏ دار المعرفة الجامعية‏2002‏ ص‏53‏ ــ‏54.‏
‏2‏ ـ د‏.‏ السيد ولد أباه‏,‏ الموقع الالكتروني‏:‏
http://www.alyoumpress.com/more.php?this_id=2769&this_cat=17
‏3‏ـ د‏/‏إبراهيم أبراش‏,‏ الثورة في العالم العربي كنتاج لفشل الديمقراطية الأبوية والموجهة‏,‏ الموقع الالكتروني‏:‏
http://www.samanews.com/uploads/110325111448LA3Q.doc
‏4‏ـ نفس المرجع السابق‏.‏
‏5‏ـ خليل العناني‏,‏ الثــورة المصــرية وتداعيــاتها العـربية والإقليميـة‏,‏الموقع الإلكتروني
http://www.arabaffairs.org/ArticleViewer.aspx?ID=b6d9f916-24d6-4329-a25d-0b361a5b7ca0
‏6‏ ـ نظرة جديدة للثورات العربية‏,‏ الثورة والقطيعة الأيديولوجية‏,‏الموقع الإلكتروني‏:‏
http://nadyelfikr.net/showthread.php?tid=43141
‏7‏ـ إسماعيل حمودي‏,‏الثورات العربية‏:‏ نموذج جديد في التغيير‏,‏ الموقع الالكتروني‏:‏
http://hespress.com/?browser=view&EgyxpID=30292‏
‏8‏ـ أبو العباس ابرهام‏,‏ الحوار متمدين‏-‏ العدد‏1018,3250//2011,‏ الموقع الالكتروني‏:‏
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=242295
‏9‏ ـ نفس المرجع السابق‏.‏
‏10‏ـ خليل العناني‏,‏ مرجع سابق‏.‏
‏11‏ـ نفس المرجع السابق
‏12‏ـ د‏.‏سمير عبد الرحمن هائل الشمري‏,‏ محاضرات في علم الاجتماع السياسي‏,‏ دار جامعة عدن للطباعة والنشر‏,‏ ط‏:2005‏ ن‏,‏ ص‏:.197‏
‏13‏ ــ رضوان زيادة‏,‏ كيف يمكن بناء تونس ديمقراطية‏:‏ العدالة الانتقالية للماضي وبناء المؤسسات للمستقبل‏,‏ المجلة العربية للعلوم السياسية‏,‏ عدد‏30‏ ربيع‏2011‏ ص‏:(170‏ بالتعرف‏)


المصدر :
http://www.maktoobblog.com/redirectLink.php?link=http%3A%2F%2Fdemocracy.ahram.org.eg%2FIndex.asp%3FCurFN%3Dindx0.htm%26DID%3D10452

مشاركة الدكتور قوي بوحنية في مؤتمر ببيروت حول وثائق ويكليكس، من تنظيم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

مشاركة الدكتور قوي بوحنية في مؤتمر ببيروت حول وثائق ويكليكس،
من تنظيم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
    اختتمت في بيروت الندوة العلمية الفكرية حول موضوع "المصدر المفتوح في عالم الانترنت والأوراق الدبلوماسية الأميركية المسربة كمعطى"، والتي نظمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة من 4 إلى 6 آذار/مارس 2011 بفندق البريستول، بيروت- لبنان.
     شارك في الندوة باحثون من مختلف التخصصات في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وإعلاميون ذوو خبرة، ومهتمون بموضوع نشر موقع "ويكيليكس" للبرقيات الدبلوماسية الأميركية، للإطلاع على برنامج الندوة يرجى الإطلاع على الرابط:

كاريزما الشارع التونسي وقوة التغيير السياسي

 

بقلم:   بوحنية قوي
 
 
     هذه الورقة تحاول قراءة الثورة الشعبية التونسية التي أعلنت يوم 14 يناير 2011 قطيعة تاريخية وسياسية مع عهد تميز بالقمع وكبت الحريات. سنحاول تلمس نقاط التوهج في الثورة التي تجاوزت مفاهيم "الاحتجاج"و"الاحتجاجات الممتدة " لتؤرخ لميلاد ثورة شعبية بأتم معني الكلمة، وتعتبر شعبية لأنها ليست ثورة لفرز طائفي معين، أو لنخبة بحد ذاتها، إنها حركة استمّدت من الشارع وتبناها، وأشعل أوراها "الشارع"، ولذا يبدو "الشعب" و"الشارع" و"الثورة" بحاجة إلي سن مفاهيم قانونية جديدة، ونحت مصطلحات دستورية تحاول وضع "ماهية جديدة" لثورة الشارع الذي تضافرت عوامل متشابكة في صموده، وتلك هي الثورة، الثورة التي جعلت مفاهيم كثيرة تدخل قاموس السياسة والدساتير، وجعلت الباحثين يطرحون تساؤلات هامة، مثل ماذا لو لم يصمد الشارع التونسي للأسبوع الرابع؟
ماذا لو لم يرفض الجيش دخول ساحة الاحتراب بين نظام "بن علي" وسلطة الشعب؟ ماذا لو كان الحراك الشعبي في مدينة بعينها دون مدينة أخري؟. ماذا وماذا؟(1) إذن هي ثورة شعبية حركية نقلت الحراك لكل فئات الشعب، وجاءت لتعلن القطيعة بين المجال والحيز الخاصPRIVATE SPACE والحيز العام PUBLIC SPACE ، وهو سر قوتها(2) كما أنها ليست قضية خبز وماء ولكنها مسألة ذهن وفكر وحرية، وهي في ذلك تتوافق مع أهم مرتكزات ومفاهيم الديمقراطية(3).
    أولا: إرهاصات وقوة الشارع التونسي كسلطة تغيير:
    في مقاربته الرصينة لمفهوم السلطة Autority)) حاول ماكس فيبر(Max Weber) أن يضع للسلطة أبعاداً ثلاثة: سلطة تقليدية تستمد وشائجها وأسسها من روابط التقاليد وأواصر العصب، وسلطة كاريزمية ، ترتبط بالشخصية الآسرة والمؤثرة، وسلطة قانونية التي تأتي لاحقا لتبسط نفوذها علي السلطة السابقة وتعلن المبادئ الراسخة لقوي العقل، وهيمنة الشرائع القانونية وتؤسس للحق والمسؤولية ، وقانون المحاسبة والمساءلة.
    عند قراءتنا المتأنية لمفاهيم السلطات سنجد أن "الشارع" التونسي استطاع بلغة الإبستومولوجيا أن يمتلك سلطة "كاريزمية"، وهو ما يمكن أن نطلق عليه "كاريزما الشارع"، إنها الشخصية الآسرة الساحرة التي سحقت كل الوشائج القائمة علي العصب والتفاوت الطبقي، ومفاهيم الطبقات.
    أجل، استطاع الشارع التونسي بسلطته الآسرة أن يحرك الشعب من أقصاه إلي أقصاه، إذ لم يشعر جزء من أبناء الشعب التونسي أن هذه الثورة ليست ثورته، أو أن هذه الثورة ستكون نواتجها ومخرجاتها ضده، لم يشعر بسيف"الحجاج"إلاّ تلك الفئة المتنفذة في الحكم التي نهبت ثروات الشعب وجثمت علي أنفاسه عقوداً طويلة. ولذا، لاحظنا أن مواطني مدينة "حمام سوسة"مسقط رأس الرئيس المخلوع حموا الثورة ووقفوا إلي جانبها، وتلك نقطة تحسب لكاريزما الشارع التونسي، ولو قمنا بمقارنة سريعة للاحظنا أن المتتبع للشأن اللبناني، يقرأ كل تحرك شعبي قراءة طائفية سياسوية ومناطقية! وهذه ملاحظة جديرة بأن نتوقف عندها.
    إن كاريزما الشارع التونسي تستمد وهجها من التراث النضالي الطويل لشعوب المغرب العربي التي قارعت الاستعمار الفرنسي، وعرفت أولي تشكيلات اتحادات الشغل، ولعل الاتحاد التونسي للشغل بتونس أحد ملامح وركائز هذا الحراك .
ثانياــ كيف نفهم قوة الشارع التونسي؟
    يفضل بعض المفكرين تسمية "تحركات الشارع" عن تسمية التحركات في "الشارع" ويذكر بهذا الصدد المفكر علي خليفة الكواري خاصيتين تميزان هذا الحراك:
    أولاهما: خاصية تعبير التحركات عن الشعب بكافة مكوناته دون إقصاء أو تمييز علي أساس العرق أو الدين أو المذهب. إن تحركات الشارع التي نقصدها هي تلك الحركة الوطنية ذات الأهداف الجامعة وليست حركة فئوية، وهي حركة يشارك فيها النشطاء من مختلف القوي التي تنشد التغيير، وإن اختلفت درجة المشاركة وتعددت وسائلها. ولذلك فإنها تحركات تختلف عن مجرد التحرك في الشارع من أجل الاستقواء بالأجنبي(الثورات الملونة) أو اتخاذ التحرك ذريعة لاستقطاب تدخل خارجي لا تحمد عقباه, فتلك اضطرابات قد تمهد لحروب أهلية.
    ثانيتهما : خاصية الشمول لكافة سبل التعبير السلمي المتاح سواءً رضيت عنه السلطة أم لم ترضَ. ولذلك لا تنحصر تحركات الشارع في المظاهرات والاعتصامات. فإلي جانب ذلك يمكن اعتبار الندوات والمؤتمرات ونشاطات المنظمات غير الحكومية والنقابات والجمعيات المهنية، التي تجمع الطيف السياسي في نشاطات وحوارات وطنية مشتركة جزءاً من تحركات الشارع، طالما كانت تجري خارج الهامش المسموح به من قِبَل السلطة أو لا ترضي عنه السلطة في العادة. وكذلك يمكن اعتبار المدونات والنشر الالكتروني والكتابة في الصحف والحديث الجريء في وسائل الإعلام وتسمية المظالم بأسمائها وتعريف الاستبداد والفساد( الكبير منه قبل الصغير) وتحديد مرتكبيه هي أيضاً من تحركات الشارع.
    فلم يعد يُجدي اليوم الحديث العام عن الاستبداد والفساد والتخلف وضرورات الإصلاح، فالحكام وأجهزتهم الإعلامية تتحدث أكثر مما يتحدث المثقفون والمصلحون، وإنما يجب تسمية المستبدين بأسمائهم، وكذلك المفسدين والفاسدين وتحديد أوجه الخلل والخراب المطلوب إصلاحه بشكل واضح وصحيح لا يترك لبسًا ولا يسمح للمستبدين والمفسدين أن يخطفوا راية الإصلاح ويحرفوها عن اتجاهها الصحيح، ومنها ما يتعلق بهم شخصياً. وأخيراً وليس آخراً يُعد من تحركات الشارع أيضاً، كل ما يتعلق بنمو القدرة علي استخدام التقنيات الإلكترونية وسبل النشر البديلة والحوار عن بعد، والتواصل من خلال البريد الإلكتروني والرسائل التليفونية. فهذه الأساليب الحديثة كسرت احتكار السلطة للمعلومات، وأتاحت فرصة طرح ونشر المعلومات البديلة من خلال وسائل لا تستطيع السلطة السيطرة عليها بالكامل، الأمر الذي أدي إلي اتساع هامش التعبير خارج ما ترضي عنه السلطة.
    وجديرٌ بالملاحظة أيضاً من خلال معظم تجارب تحركات الشارع العربي في الماضي، أن تحركات الشارع حتي وإن توافرت فيها خاصيتا التعبير عن الشعب بكافة مكوناته، وتمتعت بالشمول من حيث أساليب التعبير، فإنها قد لا تكون كافية لتحقيق الأهداف الوطنية، ومنها الانتقال إلي نظام حكم ديمقراطي. ومثال ذلك تحركات الشارع الجزائري عام 1988 وتحركات الشارع التونسي في عهد بورقيبة، فتلك تحركات قصرت عن تحقيق القصد الشعبي من التحرك.(4)
    ولا يعني ذلك إطلاقا أن الجماهير تعيش علي الخبز وحده، فالمجتمعات هي كيانات مركبة ومتداخلة تعيش بصورة كلية في ميادين شتي ومختلطة في كل اللحظات . ولكن يمكن القول أيضًا إن الجماهير تختار إستراتيجيات سياسية في حقب أو فترات مختلفة بقدر ما تتوفر معطيات مناسبة أو غير مناسبة، وإن إستراتجيية العمل أو النضال الانتفاضي هي الاستثناء في التاريخ السياسي والاجتماعي لأي شعب أو مجتمع بغض النظر عن مستوي تطوره السياسي والاجتماعي . يشير كل ما حدث في أقطارنا العربية، إلي أن الجزء الصغير نسبيًا من النشطاء الدائمين - أو شبه المتفرغين - للنضال السياسي تحوّلوا خلال ربع القرن الماضي بصورة حاسمة عن اليوتوبيات العلمانية والتقدمية إلي يوتوبيات مضادّة، وبالتالي لا يكون السؤال السليم ميدانيًا: لماذا لم تتدخل الجماهير في الصراع حول قضية الديمقراطية، بل متي تتدخل الجماهير ولصالح أي طرف؟
    يتمتع الحراك ذ مهما تكن علته وغايته وشعاراته - بطبيعة تعقيدية يلتقي فيها الزمان والمكان ، وتتداخل فيها الأحلام والتصورات والقيم، وهو ذو طابع صراعي حتي لو كان سليمًا ومنظّمًا، فعنفيّته أحيانًا من صلب صراعيتّه الضدّية. وحين يواجه بالعنف والقمع يزداد أكثر. أما الأمر المضحك فكون هذا الحراك في الأصل نتاجًا للسلطة التي جارت المعارضة في الخروج إلي الشارع. ولا بد من الإشارة هنا إلي أن العملية الحراكية بكل أنواعها هي تفكير أيضًا بطريقة أخري ورؤية،هي خطاب بلغة تحليل للخطاب الجديد، خطاب يحتوي علي الرموز والإشارات والتعبير، ويحتاج إلي الفهم والتأويل.
    فلم يعد البيان والكتابة والجمال هي الخطاب، بل صارت كل علامة تحتاج إلي الفهم والتأويل, و تؤدي رسالة هي خطاب. وتعتبر مساحة المكان في الترسيخ وتأسيس العملية الديمقراطية عاملا أساسيا في بلدان عربية ما زالت القبضة الأمنية والاستبداد فيها أكثر استفحالا، ويعتبر تحرك الشارع بارقة أمل في التغيير، ولو كان هذا التحرك محدودا وفي مناطق معينة، كما قد يكون مرتبطا أحيانا بجهة معينة أو بجماعة عرقية - إثنية متميزة في منطقة ما.(5)
    أصبحت التقانة تتحكم في نبض الشارع وتؤجج حراكه وفاعليته. إن التطورات التقانية والمعلوماتية وهوامش الحرية الأكثر اتساعا في السنوات الأخيرة تسمح بتطوير الكتابة في هذا الشأن، علي رغم ما يلاحظ من أن العملية الحركية في الشارع العربي والتغير الدولي هما أكثر سرعة وتغيرا وتطورا من العملية التنظيرية والكتابة الاتفاقية الاستشرافية، ولعل سبب ذلك مايلي:
من الطبيعي أن الحركة علي المستوي الاجتماعي والسياسي أكثر سرعة، ولكن هي تتم ضمن تصورات وقيم مصاحبة لها علة وغاية ولا تنفك عنها. ومن هنا لم يعد للفصل من قيمة، وبات من المتجاوز الحديث عن الفصل بين الحركية العملية والحركية النظرية، فالحركة واحدة متداخلة ومتقاطعة، وهنا نشير إلي الدور الذي أداه العالم السوسيولوجي ماكس فيبر في كسر النظريات التقليدية في فهم هذه العلاقة بطرحه قضية الفهم والتغيير.(6)
     ثالثاـ ثورة تونس. جراحة عفوية بمنظار دقيق وأفق مفتوح:
    يعتبرالباحث المصري عمار علي حسن أن ما شهدته تونس حدث غير مسبوق يضاف إلي سجل الثورات التاريخية التي صنعتها الشعوب فلم يشهد التاريخ سوي ثلاث ثورات مهمة هي: الثورة الفرنسية في العام 1789 والثورة البلشفية في العام 1917والثورة الإيرانية في العام 1979 وها هو الشعب التونسي يسجل اسمه في سجل الثورات(7) الخالدة بانتصاره علي واحد من أشرس الأنظمة القمعية في العالم الثالث وخاصة العالم العربي ألا وهو نظام زين العابدين بنعلي الذي حكم تونس بالقمع والقهر لأكثر من 23 عاما.
    إن " نظام بن علي كان من أشد الأنظمة القمعية في العالم العربي، حيث كان يستخدم قوات الأمن في فرض سطوته علي البلاد، ووضع القيود علي وسائل الإعلام بشكل غير مسبوق، وكبت الحريات، ولم يستفد من النمو الاقتصادي الذي شهدته تونس في عهده سوي قلة من بطانة حكمه، في حين كان الشعب يعاني البطالة والفقر، وعمل النظام كذلك علي تدمير الأحزاب السياسية، والنقابات المهنية والعمالية، دون أن يدري أن كل ذلك سيولد الانفجار في لحظة ما، ولما حانت تلك اللحظة التي انطلقت مع انتحار بائع متجول جامعي (محمد البوعزيزي) من خلال إضرام النار بجسده في الشارع، انتهزتها الطبقة العاملة فرصة، وعضت عليها بالنواجذ، فاندلعت تظاهرات رفعت شعار " الخبز"، ثم تضامنت معها الطبقة الوسطي، مطالبة بالحرية، ولم يستطع بن علي السيطرة علي الأوضاع بعد أن فقد السيطرة علي الشرطة والجيش، فاتخذ قراره بالرحيل الي خارج البلاد في 14 يناير الماضي، ما يعتبر واحدا من أهم انتصارات الشعوب الـ40 الماضية، التي لم تعرف فيها المنطقة العربية سوي الانقلابات العسكرية أو التغيير من داخل الأنظمة الدكتاتورية نفسها." (8)
     ومع زخم الأحداث وتدافعها أصبح السياسي أمام تساؤلات جوهرية مثل هل وضع تونس جاهز للحرية العاقلة والتداول السلمي للسلطة والانفتاح التعددي علي مختلف القوي والشرائح أم ستتحول الانتفاضة إلي نموذج إضافي يثير المخاوف لدي دول الجوار والمحيط العربي؟
تونس يمكن أن تشكل في حال نجاحها في تخطي إرباكات المرحلة الانتقالية ذلك النموذج المعقول والمطلوب لكسر تلك الصور النمطية السلبية عن حال الحرية وارتباطها بالفوضي وعدم الاستقرار والاضطراب الأمني كما هو وضع لبنان حاليا والجزائر سابقا. الاحتمال غير مستبعد إذا استطاعت السلطة المؤقتة ضبط مسار الانتفاضة في قنوات مدنية تعددية تعطي فرصاً للتنافس انطلاقا من برامج سياسية واضحة الأهداف والبنود.
    إن ظروف تونس المغايرة لصورة لبنان (التعدد العصبي الطائفي والمذهبي) لكونها دولة شبه متجانسة في تركيبها الديني والمذهبي ومتقاربة في نسبة نموها الاجتماعي ومستواها التعليمي، وهذه الخصوصية في حال أحسنت السلطة المؤقتة استخدامها لتطوير نموذج تعددي في المرحلة الانتقالية قد تشكل مناسبة لإنتاج تجربة تشجع جمهور دول الجوار والمحيط العربي علي الأخذ بها بوصفها وصفة ناجحة لمشكلات مستعصية.
     إن التجانس التونسي ليس عاملا كافيا للتماسك السياسي، ولكنه يعطي أفضلية للتقدم باتجاه المراهنة علي احتمال ظهور نموذج معاصر يتمتع بمواصفات معقولة ترضي القوي المتنافسة علي الأخذ بمحسناته وإيجابياته. وهذا التجانس النسبي الذي يقوم علي تعددية حزبية ونقابات مهنية وطبقة وسطي منفتحة يعتبر خطوة متقدمة قياسا بالبلدان التي تتنافس ديمقراطيا علي قاعدة تعددية عصبية قبلية أو طائفية أو مذهبية أو مناطقية كما هو حال العراق مثلا، كما أن أنظار المحيط العربي مشدودة الآن إلي تونس، والجمهور يراقب الانفعالات والتحولات بانتظار أن تنتج تلك المتغيرات ذلك النموذج المعقول والمطلوب لكسر تلك القناعات.
تبدو الاحتمالات منعقدة علي مدي نجاح السلطة المؤقتة في إنجاح انتقال البلد في فترة الانتفاضة إلي حال من الاستقرار يستوعب الاستحقاقات ويستقبل المتغيرات بمرونة وانفتاح . المرحلة الانتقالية خطيرة وحساسة وهي علي قصر مدتها الزمنية تشكل ذلك المفتاح السياسي الذي يمكن أن يدخل المنطقة في طور مغاير للزمن السابق أو يؤدي إلي نوع من الارتداد عن التعددية والعودة إلي الاستبداد وعسكرة النظام.(9)
     إن تونس التي عاشت تحت نظام "بن علي" أكثر من 23 عاما، ولم يجـد مواطنوها متنفسا للتعبير، في ظل القيود الصارمة التي فرضـها الرئيس علي الصحافة والإنترنت وحرية التعبير، تعيش الآن فترة هي الأكثر حساسيـة وخطورة، خاصة وأن مواطنيها اختاروا الطريق الذي تري بعض الأنظمة الأخري أنه يجب أن يكـون تدريجيا، وبما أنهم بدأوا من النهاية، وأطاحوا برأس السلطة، فلم يعد الآن هناك مجال للتراجع، إما عهد جديد، أو أزمات سياسية داخلية وعدم استقرار قد يمتد لسنوات، وهو ما يمكن ترجمته عمليا إلي تضاعف نسبة البطالة وتفاقـم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، هذا بخلاف الانفلات الأمني الذي قد تتسم به مثل هذه الحالات، ووقتها قد يقول البعض) أين أيام بن علي! (فهناك أيضا من رأوا فيه نموذجا للاستقرار علي حساب أهــم ثروات المجتمع، وهو المواطن). وهو خطاب يروج له الكثير من العرب المترحمين علي أيام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين عند رؤية التناحر الطائفي في العراق والقتل المجاني بالجملة علي الهوية.
     و بنظرة للوضع السياسي والحزبي في تونس في عهد الرئيس زين العابدين، من الممكن ملاحظة وجود بعض الأحزاب المعارضة، التي بدت علي أنها نوع من الديكور الذي استخدمـه النظـام كأداة مكملة لصورته في الخارج، كما يلاحظ أيضا جانب آخر، وهو أن "بن علي" كان يحرص علي الاستماع لرموز بعض هذه الأحزاب، وفي الغالب تنتهي هذه اللقاءات ببيانات حول مدي إصغاء الرئيس لمواقف ونبض الشارع، ونقـل صورة إيجابية من داخل القصر حول الرئيس المنصت الذي يسعي إلي تلبية تطلعات المواطنين، وهي بيانات كثيرة من الممكن العثور عليها علي المواقع الإلكترونية المتواضعة لهذه الأحزاب، والتي لا يتعــدي بعضها كونه مدونة مجانية الركح السياسي التونسي أو حتي حساب علي الفيس بوك، تمارس التسويق السياسي المجاني لسيادة الرئيس (10).
    بدأت مظاهر الفساد تظهر علي سطح الحياة السياسية التونسية بعد تنفذ محيط عائلة بن علي، خاصة أصهاره آل الطرابلسي والماطري بعد زواج بن علي من ليلي التي تعد زوجته الثانية. فقد تحكمت عائلة بن علي في كل مفاصل الاقتصاد، فقد تحكمت في البنوك والعقارات والسياحة والإعــلام. استحوذ بلحسن طرابلسي، أخ ليلي الأكبر، علي شركة الطيران "كورتاجو إيرلاينز"، وجعل الشركة التونسية "تونس إير" في خدمتها سواء عبر اللوجيستيك وحتي في سوق نقل السياح. كما أن زوج إبنة بن علي، صخر الماطري، استحوذ علي بنك الجنوب التونسي وجني من صفقة بيعه 17مليون دينار تونسي، كما أن الأخير كان العارض الوحيــد لصفقة فتح وكالات بيع السيارات بعد أن تدخلت أسرة زوجته.
    و حسب مصادر لرئيس المجلس الوطني للحريات في تونس، عمر المستيري، فقد أكد، أن ليلي بن علي أخذت معها 1500صفيحة ذهبية، وهي تغادر البلاد استخرجتها من البنك المركزي التونسي، كما أن تنفذ ليلي في الحكم يذكرنا كيف استطاعت أن تسحب الجنسية التونسية من زوجة الراحـل عرفات "سهي" والالتفاف علي مشروع المدرسة الخاصة الذي كلف 205 ملايين أورو.
    كما أن القبضة الحديدية للرئيس بن علي علي كل أجهزة الدولة جعلته يسخر كل الأجهزة الأمنية لبسط سيطرته عبر قمع كل الأصوات المعارضة والقضاء علي أي إمكانية لتواجد التيار الإسلامي الذي زج بأقطابه وأتباعه في السجون. وتذكر الإحصائيات أن عدد المعتقلين وصل أوجه سنتي 192، 1993 حين تجاوز عشـرات الآلاف، بعدما زج بالإسلاميين بالمئات سنة 1999وأعقب ذلك مئات ممن اتهموا بالانتساب إلي السلفية الجهادية وكانت في أغلب الأحوال، اعتقالات استباقية من أجل حشد الدعم الغربي لنظام بن علي.
    كما أنه تم التضييق علي المعارضة وزج بالمنتسبين إليها في السجون وهو ما جعل موضوع الحريات والإعــلام بمثابة رفاهية في تونس التي تحجب فيها مواقع المعارضة ومواقع الاتصال الاجتماعي، حيث تتحكم عائلة بن علي في أجهزة الإعلام السمعية والبصرية والمكتوبة وحتي موزعي الانترنت(11).

رابعا :شجاعة الشباب.وإزالة بقايا الجنرال:

    يروي الصحفي والإعلامي التونسي رشيد خشانة حكاية الشابين اللذين انتحرا لدي انطلاق الانتفاضة في سيــدي بوزيد، وهما محمد البوعزيزي (26 عاما)، وحسين الفالحي (25 عاما) الذي تسلق عمودا كهربائيا معلنا قرفه من العوز والبطالة قبل أن يتفحم، بكونهما يرمزان إلي يأس ذلك الجيل الجديد ليس فقط من تحقيق أحلام المستقبل، التي تملأ صدر رأس كل شاب، وإنما حتي من تأمين الحـد الأدني من الحياة الكريمة. وكانت الإحصاءات الرسمية تقدر نسبة العاطلين بـ14 في المائة في المحافظات الداخلية، وتشمل 30 في المائة من الشبان المنتمين للفئة العمرية ما بين 15 إلي 29سنة. وتعتبر هاتان النسبتان من أعلي نسب البطالة في العالم العربي، ما أوجد قطاعات واسعة من المحرومين والمهمشين الذين شكلوا وقودا للانتفاضة الاجتماعية في مختلف المناطق، ويؤكد بأن الحادث الأهم في الواقع الاجتماعي التونسي
هو ارتفاع نسبة المتعلمين والخريجين بين هؤلاء العاطلين، الذين شكلوا في السنوات الماضية اتحادا للخريجين العاطلين، إلا أن الملاحقات الأمنية والاعتداءات شلته. وبهذا المعني فالعاطل التونسي يشكـل نموذجا خاصا لكونه ليس عديم التكوين ولا فاقدا للخبرة، بل إن مستواه العلمي يحول دون عثوره علي فرصة للعمــل. وخلال العقد الأخير، ارتفعت نسبة الباحثين عن وظائف من بين حملة الشهادات، من 20 في المائة من القوة العاملة سنة 2000 إلي 55 في المائة سنة 2009 وتعزي تلك المفارقة إلي عدم مواءمة النظام التعليمي لمتطلبات سوق العمل، مما أفرز كتلة بشرية هامة من المهمّشين الذين يدفع بهم القنوط إلي الانتحار.
    غير أن إحدي السمات المميزة لظاهرة البطالة في تونس، مقارنة بالمغرب والجزائر مثلا، هي أن مرونة العاطلين تمنحهم القدرة علي إيجاد أعمال مؤقتة في قطاعات اقتصادية موازية، مثل بيــع الخضار علي العربات وغسل السيارات الخاصة والعمل في ورشات البناء، وهو ما أفرز متعلمين يقبعون في أسفل السلــم الاجتماعي، ولا يتمتعون حتي بالحقوق التي يتمتع بها الباعة الدائمون أو البناءون العاديون.
وفي مناخ محتقن كهذا، لا مجال فيه حتي للمخاطرة بالقفز إلي قوارب الموت إلي أوروبا بعد فقدان الأمل في الجنة الموعودة، تكاثرت ظاهرة الانتحار بوصفها علامة علي القنوط ونتيجة لانسداد كافة السبل أمام قطاعات واسعة من الشباب. ويقدر عدد المنتحرين في تونس بألف شخص سنويا، وهي نسبة مرتفعة في بلد لا يتجاوز عدد سكانه 10ملايين فرد، ما يعني أن هناك مواطنا واحدا يلجأ للانتحار من كل ألف مواطن، علي رغم الموانـع الدينية والاستهجان الاجتماعي والأخلاقي لهذه "الحلول". ومن الأرقام ذات الدلالة في هذا المجـال ما صرح به الدكتور أمان الله السعدي، الأستاذ في كلية الطب ورئيس قسم الإنعاش الطبي بـ "ركز الإصابات والحروق البليغة"، من أن 12 في المائة من الوافدين علي المركز هي حالات تخص من حاولوا الانتحار. كما أفاد أيضا أن المركز سجل 280 حالة انتحار في عام 2010منذ بداية العام حتي أكتوبر فقط، أي ما بمعــدل 28 حالة شهريا، أو حالة انتحار في كل يوم تقريبا.
    أما القطاع السياحي، الذي يشكل مصدر الدخل الثالث بعد الفوسفات والمكونات الكهربائية والميكانيكية، فلا يفتح بدوره آفاقا حقيقية لهؤلاء الخريجين لأنه يعتمد أيضا علي ذوي المهارات المتدنية، وهو موجه أساسا للأوروبيين ذوي المداخيل المنخفضة والمتوسطة (12).
و ترافقت تلك الاختلالات الهيكلية مع اختلال هام آخر يتعلق بعدم التوازن التنموي بين المناطق الشرقية، الواقعـة علي الشريط الساحلي، والمناطق الداخلية، وظل هذا التفاوت الموروث من فترة حكم الرئيس الحبيب بورقيبــة عام 1956 يتعمق طيلة العقدين الماضيين. فبلغ حجم الاستثمار في قطاع الصناعة في المناطق الشرقية 689 مليون دينار (472 مليون دولار) في الأشهر الثلاثة الأولي من عام 2009و 587 مليون دينار (402 مليون دولار) خلال الفترة نفسها من 2010 فيما لم يتجاوز الحجم في المناطق الغربية، التي تعتبر مناطــق ظل، 258 مليون دينار (177 مليون دولار) في عام 2009و172 مليون دينار تونسي (118 مليون دولار) في عام 2010 بل إن التفاوت ظهر جليا حتي في نسبة التراجع بين مناطـق وأخري، إذ لم يتجاوز 15في المائة في المحافظات الساحلية، فيما وصل إلي أكثر من الضعف (33 في المائة) في المحافظات الداخلية بهذا المعني نفهم لماذا انطلقت الثورة الاجتماعية غير المسبوقة من الوسط الغربي،
    و انتشـرت أساسا في المناطق المحرومة التي تعاني من التهميش. وفي أجواء الشعور بالحيف الجهوي والغبن الساري بين أبناء تلك المحافظات المنسية، ترعرعت مسوغات التمرد الجماعي، الذي لم يكن ينتظر أكثر من عود ثقاب، سرعان ما قدحــه الشاب البوعزيزي بإقدامه علي فعل تراجيدي شديد الرمزية، مكثف الدلالة، بعيد الصدي(13).
    يعتبر العناد الشعبي أحد أهم ملامح الثورة التونسية، إنه العناد الممزوج بالاستبسال في الدفاع عن كرامة اجتماعية وسياسية مهدورة بدأت ثورة تونس الشعبية المجيدة، بانتفاضات خبز محلية تكررت عدة مرات في وسط وجنوب البلاد في العامين الأخيرين. ولكن الانتفاضة الأخيرة دامت زمنا يكفي كي تنضم إليها المدن والنواحي التونسية الأخري. ويعود الفضل في ديمومتها إلي عناد وبسالة أهالي ناحية سيدي بوزيد الذين اختلط لديهـم المطلب الاجتماعي، بالغضب والدفاع عن الكرامة في مواجهة الإذلال. كانت البداية إذن انتفاضة الخبز والكرامة، وليس الخبز وحده. هذا المركب من رفض الحرمان، ورفض الذل، هو الذي يؤدي للعناد في التعبير عن الغضب(14).
ليست كل انتفاضة خبز مرشحة للتوسع والامتداد حتي التحول إلي ثورة. وقد نجحت في التمدد في هذه الحالة لأسباب عديدة، أهمها:
أ) رد فعل الدولة المستخف بذكاء الناس، ورد فعل الأجهزة الأمنية المستهتر بحياة الناس.
ب) أن تونس أصبحت ناضجة لرفض الوضع القائم من قبل الفئات الاجتماعية المتضررة من التمييز والاستغلال، والمتأذية من اقتصاد النمو دون تنمية، ومن الاقتصاد السياحي الذي يغني ويطور مناطق، ويفقر أخري، ويرفع أسعار العقارات دون نمو لسائر فئات المجتمع. وفقد الاقتصاد الذي يعتمد علي صناعات صغيرة تصدر لأوروبا أهليته للمنافسة حين دخلت الصين منظمة التجارة الحرة، وانحسرت صناعة النسيج والألبسة التونسية وزادت نسب البطالة.
ج) في هذه الحالة عادت حتي انجازات النظام السابق وبالا عليه. فقد ارتفعت نسبة التعليم في تونس فعلا، وقد اهتم نظاما بورقيبة وبن علي بالتعليم فعلا. ولكن نسب التعليم المرتفعة تتحول إلي عبء علي النظام في حالة عدم تمكنه من توفير فرص عمل للخريجين، في الوقت الذي ترتفع فيه نسبة التوقعات عند المتعلميــن لمستقبل أفضل. فحجم الخيبة غالبا ما يكون بقدر حجم التوقعات. ويرفع التعليم نسبة التوقعات، كما يرفع منسوب الوعي الرافض للظلم والفساد(15).
في خضم هذا التدافع والصراع بدا النظام التونسي علي حد تعبير المفكر عزمي بشارة ــ نظاما بلا قضية، "دكتاتوريته رمادية"، لا صلة لها بمزاج الشارع والرأي العام. وقد بدا غير مبال بشكل كامل بالقضايا العربية، ورتب علاقاته مع إسرائيل منذ أوسلو، وجعل قبلته الشمال بشكل سافر وعلني، ولم يكن لديه ما يتباهي به سوي "العلمانوية" التي عمت أعين الكثير من المثقفين والفنانين وغيرهم عن رؤية طبيعـــة النظام الحقيقية. فالعلمانية لا تكفي للتدليل علي شيء، وهي ليست نظام حكم، ولا هي سياسة اقتصادية اجتماعية. والواقع أن التضرر منها قد شمل الفئات المتدينة والعلمانية علي حد سواء(16).
بدأت ثورة تونس عفوية، ولكنها لم تستمر كذلك، إذ انضمت النقابات والمنظمـات الحقوقية ونشطاء قوي سياسية واتحادات الطلاب إلي الاحتجاجات. وحتي حينها لم تكن للانتفاضة قيادة سياسية معارضة معروفة.
هذا لا يعني أنه يحظر علي الأحزاب السياسية استثمار الثورة من أجل التغيير الديمقراطي، فهذا دورها. قد تكون الثورة عفوية، وقد تكون الفوضي الأولي من عناصر قوتها، ولكن العفوية تصبح ضعفا وخطرا حين يتطلب الأمر إدارة المجتمعات والدول، إذ يصبح الأمن الشخصي والاجتماعي وتنظيم الحياة العامة مطلب المجتمع(17) .
    من الملاحظات الجديرة بالتوقف تلك القوة التأطيرية للجمعيات وحركات المجتمع المدني بشكل ساهم بخلق وعي جماعي مدني لحماية الممتلكات العمومية والشخصية، ولعل هذه صفة تونسية تعود لقوة التأطير المجتمعي والتواجد التاريخي المتغلغل لهذه الجمعيات في الأوساط التونسية. ولعل ما يدعو للدهشة والانتباه هو تعاطي المجتمع التونسي مع الفضاء الجمعياتي منذ القديم، إذ ظهرت أولي الجمعيات الخيرية العصرية وازدهرت في أواخر القرن الـ19 وهذا ما يفسر صدور أول أمر ينظم الجمعيات بالرائد التونسي في 15سبتمبر 1988. وقد تضمن هذا الأمر في المادة الثانية منه موافقة الدولة علي تأسيس الجمعية، إذ تأسست جمعية الخلدونية سنة 1896 وجمعية قدماء التلاميذ الصادقية سنة 1905، وجمعية التعاون الخيري بصفاقس سنة 1913. ورغم تعاطي المشرِّع التونسي بنوع من الصرامة والرغبة في تدجين الجمعيات التونسية بدءاً من القانون7 نوفمبر1959 (نظام الترخيص المسبق) وصولا إلي قانون رقم 90 المؤرخ في 20 أغسطس 1988إلا أن عدد الجمعيات التونسية تجاوز 5553 جمعية سنة 1998ليصل إلي 7529 جمعية سنة 2000تنشط في مجالات عديدة وتختلف درجة فاعليتها وتأثيرها، بحسب مجال نشاطها وحسب طبيعة علاقتها والنظام السياسي السائد (18) ونعتقد أن وجود عدد كبير من الجمعيات تتمتع     بحراك تنوعي تساهم بشكل لا يمكن إنكاره في إذكاء روح العمل الجماعية وتنمية الوعي والذكاء الاجتماعي.
إن الدرس التونسي الذي بدا مفاجئا ومثيرا، كان يمكن أن يكون تعبيرا عن مسار نمطي آخر في البيات الشتوي العربي . فقد حدث الكثير لتقع المعجزة بالطبع، لكن السبب الذي أدي لخروج الشعب التونسي وتحويله للمسار الاحتجاجي المطلبي إلي مسار سياسي ربما يكمن في حقيقة قد لا ينتبه لها الكثيرون. و هي حقيقة يراها البعض مدعاة للتعجب. ذلك أن تونس كما هو معروف حققت في زمن زين العابدين بن علي الكثير من معدالت التنمية المقدمة (19) في مجال البني التحتية والنظام التعليمي والبنية السياحية، وهذه التنمية خلقت بطبيعة الحال وجودا حقيقيا لطبقة وسطي بصورة من الصور، الأمر الذي يفسر لنا الكثير من التحولات التي يمكن أن تحدث علي يد تلك الطبقة. فالوعي هو الذي يصنع المعجزة وليس الفقر المدقع أو الغني المترف ومع ذلك فإن تونس بوعي نخبها التي استفادت من نظام تعليمي متقدم، ومن ثم استخدام تقنيات التواصل الحديثة عبر الانترنت، رغم الجفاف الذي أدي إلي إفساد السياسة عبر تغييب بنياتها وآلياتها الموضوعية طوال 23عاما وفق استراتيجية كانت تنطوي علي خطورة بنيوية معيقة، قد تؤدي لا سمح الله إلي انفلات أمني يذهب بها إلي المجهول، إلا أن الشعب التونسي الذي يعرف تماما ما لا يريد ربما أمكنه الوصول إلي ما يريد إذا أدرك طبيعة الحكومة التي ينبغي أن تتولي الأمور عبر تمثيلها لأكثر المكونات السياسية والتكنوقراطية للشعب التونسي (20). بلا إقصاء وتهميش لجميع الفعاليات والبيانات السياسية، إن الإرهاص الكبير الذي يؤرق المتتبع لهذه الثورة هو قدرة النخب التونسية علي فك المعادلة التي تقول: إن قدرتك علي معرفة ما لا تريد لا تعني بالضرورة قدرتك علي ما تريد. فالشعب الذي عرف تماما ما لا يريد - أي وجود نظام بن علي ذ يفترض أن يجسد ما يريده علي نحو يترجم آفاق ثورته ليدون تاريخاً سياسيا جديدا تحكمه في ذلك المقولة الشهيرة " أن تفكر سياسيا بشكل جيدا فهذا يتطلب منك أن تقرأ تاريخيا بشكل جيد "
الخاتمة:
    يقول المثل العربي إذا ضربت فأوجع، وإذا تكلمت فأسمع، وإذا مشيت فأسرع، وإذا أطعمت فأشبع، وإذا ناقشت فأقنع، وإذا كتبت فأبدع، وإذا أشعرت فأسجع.
    من المهم ولنجاح الثورة أن تواصل النهج السلمي في التغيير بطريقة العصيان المدني من طرائق لا حد لها أوصلها جماعة اللآعنفيين إلي طريقة من الاعتصام السلمي والمظاهرات والإضرابات والصيام ورفع الشعارات وحفلات الموسيقي وتعليق اللافتات علي الباصات والجلوس علي الأرض. وصيانة الثورة بعد نجاحها بنفس الأسلوب وكذا استكمال العمل حتي الأخير فمن لم يتم عمله كأنه لم يعمل شيئا. ومتابعة العصيان المدني حتي كنس النظام بالكلية والتغيير الكامل بولادة أمة محررة من الخوف (والعبودية21).
    أما الدرس التونسي البليغ فيكمن في أن تغيير النظام لا يتحقق فقط بـ "فرار" بن علي. وكأنهم ذ أي التونسيين - استخلصوا دروسا من تجارب عربية أخري، حيث استبق النظام الغاضبين، رافعا لواء التغيير والإصلاح ليتلاعب بها، ويدجنها كما يشاء. مستعملا اللجان والتقارير واللقاءات والندوات.، وما كان يستقبل به بعض المعارضة التونسية التي أبدت تجاوبا مع اصطلاحات بن علي المعلن عنها في آخر خطاب له، رفضه الشارع الذي وصل تحديه لبقايا النظام. فتونس تريد التغيير، وهي تصنعه فعلا. تونس لا تريد الخلط بين القديم والجديد. لأنها وصلت إلي ذروة عدم ملائمة القديم مع الجديد. والرصاص الذي "أكل" حياة مواطنين. وعمليات التوقيف والتعذيب أدت إلي التصعيد، ثم إلي المطالبة بإزالة السيف الذي كان مصلطا ًعلي رقاب التونسيين. لقد رفض بن علي التغيير، فأقصاه الشارع (22. وخلاصة لكل ما سبق يمكن القول :
ــ إن قوة الثورة التونسية هو كونها امتداد لنبض الشارع، وتحرك لشارع احتضن الثورة فاحتضنته بآفاقها السياسية والقانونية والاجتماعية.
ــ إن الثورة تقاس قدرتها علي البناء، بناء الدولة وبناء السلطة وبناء السياسة، وهو تحد كبير سيواجهه التونسيون خلال السنوات القادمة.
ــ من الواقعي والبراجماتي أن لا تحمل الثورة التونسية أكثر من حمولاتها، فتونس دولة قليلة الموارد، ولكنها تتمتع بموارد بشرية عالية التأهيل والتكوين، ولأجل ذلك ينبغي لإدارة الدولة وشونها أن تراعي في تعاطيها المستقبلي مع الجوار المتوسطي ذلك التوازن الذكي للحد من الفقر، وتحقيق تنمية توازن بين الحق في التنمية الإنسانية الاقتصادية والحق في التنمية الإنسانية الاقتصادية والحق في الحرية علي حد سواء.
ــ إن الدولة لا تبنيها الايديولوجيات رغم ضرورتها وأهميتها، ولكن يبنيها فن التدبير وبراعة التسيير، ومهارة إدارة الائتلاف والاختلاف علي السواء، وتلك مهمة صعبة ووعرة إذا أجادها التونسيون فإنهم لن يقعوا قطعا في حروب الاستقطابات الفئوية، وطواحين الصراعات المناطقية والجهورية الضيقة.
الهوامش:
1ـ هذه بعض التساؤلات التي طرحها المفكر العربي عزمي بشارة في محاضرة ألقاها بعنوان ثورة الشعب في تونس، أسبابها ونتائجها وإنعكاساتها عربياً، من تنظيم المركز العربي للبحث في السياسات، في الدوحة، الخميس20 / 1 / 2011 .
2ـحيلاحظ أنّه قبل سقوط نظام "بن علي" تغيّرت الشعارات كلية إذ أخذت أبعاداً سياسية مثل "خبز وماء وبن علي لا"، "بن علي إرحل"، Ben ali dgage".
3ـ تعتبر الثورة الفرنسية أن الديمقراطية ليست مسألة خبز وزبدة ولكنها مسألة ذهنية وقلب
La Dmocratie nصest pas un question de pain et de beur, cصest une question d+ esprit et de cدur .
4ـ علي خليفة الكواري ، بشائر تونس: تحركات الشارع العربي من أجل الديمقراطية: في الديمقراطية والتحركات الراهنة للشارع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ديسمبر 2007ص:32 ــ 7 .
5ـ بومدين بوزيد ، حدود قوة الشارع في التغيير السياسي وسبل تعزيز التحول الديمقراطي ومحاولة في فهم تعثر التجربة الديمقراطية في الجزائر، المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد11 صيف 2006، ص44 ، 54، 64.
6ـ الديمقراطية والتحركات الراهنة للشارع العربي، المرجع السابق، ص، 21.
7ـ كتبت دراسات غربية عديدة حول ثورة الشارع مثل:
-PHILIPPE Godard, la dmocratie a- t- elle t un seul jour pour le "pouvoir du peuple"
Publien PDF par di ogene.ch.
http//creativecommons.org/licenses/by-nc-2.0/fr/ %20
-C dric Milhlat, تla souvrainet du/des peules (s):utile/ultime contre pouvoir face ltat et lunion europenne
www.droit constitutionnel.org/congres Paris/ة/ Milhat TXT.pdf
- raphal canet,le peuple contre la nation: Mobilisations sociales et dmoratie au Mexique,
la chronique des Amriquesت,janvier 2007N 2.
8ـ صبري حسنين، خبراء:الثورة التونسية ستلهم الشعوب للتخلص من الاستبداد،
http//www.elaph.com/web/news/2011/1/625031-html
9ـ وليد نويهض، تونس ومخاطر المرحلة الانتقالية، مجلة الوسط، عدد 17 يناير2011 الموافق 13صفر 1433هـ، ص:18.
10ـ مقال بعنوان:الشارع التونسي بدأ طريق الديمقراطية من نهايته وأطاح برأس السلطة، ونجاح الثورة البيضاء علي المحك.
http//:www.alray news.com/news.aspxid=380678
11ـ يومية الخبر الجزائر، عدد الأحد16 يناير2011الموافق ل 11 صفر 1433هـ، ص 6 .
12ـ رشيد خشانة، الإنتفاضة التونسية :الدوافع والتداعيات، يناير 2011سلسلة تقارير مركز الجزيرة للأبحاث، يناير 2011 ص:2 - 4
13ــ المرجع السابق، ص، 4 ــ 5 .
14ــ عزمي بشارة، مصدر ثورة تونس الشعبية المجيدة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2011ص:20
15ــ المرجع السابق، ص،3 .
16ـ المرجع السابق، ص،4.
17ــ المرجع السابق، ص،5 .
18ــ للاستزادة أكثر تطالع الورقة التفصيلية للباحثة:
فتحية السعيدي، تقييم وطني لمشاركة المواطنين والمجتمع المدني في إصلاح القطاع العام في تونس، برنامج الادارة الرشيدة لخدمة التنمية في الدول العربية ص:20ــ 21 .
www.pogar.org/publications/civill/assessments/tunisia-a.bdf
19ــ ضلت تونس الي ما قبل الثورة الشعبية رمزا لجودة الحياة وفق تقارير دولية وغربية، لاحظ مثلا أنه وفق تقرير مؤسسة انترناشيونال ليفنغ (international living) لسنة 2009. أن تونس تعتبر الأولي عربياً من حيث جودة الحياة، الثانية عالمياً من حيث حسن التصرف في المال العمومي وفق منتدي دافوس، نسبة التحضر أكثر من 65% نسبة الإنارة الكهربائية ونسبة الربط بمياه الشرب 98% نسبة المالكين لمسكنهم الخاص 80%، توسعت الطبقة الوسطي لتشمل أكثر من ثلثي المجتمع 81 %، نسبة الفقر 38%، التغطية الاجتماعية 91%، نسبة تعليم الأطفال 90%، ورد ذلك في صحيفة العرب الأسبوعي عدد السبت 4 / 2 / 2009.
20ــ محمد جميل أحمد، الانتفاضة التونسية، جدلية الوعي والجغرافيا، موقع ايلاف يوم 15يناير 2001
http//:www.elaph.com/web/opinion/2011/01/625097.html
21ــ خالص جلبي، أيّها التوانسة احذروا الإنقلاب؟ موقع إيلاف يوم الأحد 16يناير2011
http//:www.elaph.com/web/opinion/2011/10/625214 .html
22ــ يومية الخبر، الجزائر، عدد الأحد 16يناير 2011ص،20.



المصدر : 
 http://digital.ahram.org.eg/Policy.aspx?Serial=479013

انعكاسات العولمة على المضامين التعليمية


الدكتور قوي بوحنية

     تبدو العولمة كسيرورة ذات مساقات  تقانية واعلامية قد   ساهمت  بشكل  كبير في اعادة صياغة المضامين الفكرية والتربوية والتعليمية وهو ما أبرز مفاهيم الجودة والنوعية  وما تتضمنه من حلقات، وتأتي هذه الانعكسات بفعل ما تم  تطويره من مقاربات تهدف الى  الاهتمام بالكفاءة  تأسيسا لمجتمع المعرفة. وفي ما يلي عرض لأهم هده الانعكاسات.

انعكاسات العولمة  على المضامين التعليمية
أ. د. بوحنية قوي
أستاذ الادارة والعلوم السياسية جامعة ورقلة الجزائر
  تمهيد
        تبدو العولمة كسيرورة ذات مساقات  تقانية واعلامية قد   ساهمت  بشكل  كبير في اعادة صياغة المضامين الفكرية والتربوية والتعليمية وهو ما أبرز مفاهيم الجودة والنوعية  وما تتضمنه من حلقات، وتأتي هذه الانعكسات بفعل ما تم  تطويره من مقاربات تهدف الى  الاهتمام بالكفاءة  تأسيسا لمجتمع المعرفة. وفي ما يلي عرض لأهم هده الانعكاسات.
الاتجاه الأول: توظيف المقاييس الاقتصادية على النسق التعليمي:
     بما أن التعليم مشروع اقتصادي وليس فقط مشروعا تنمويا بيداغوجيا، علميا، إداريا وثقافيا فإن مدخلاته ومخرجاته شديدة الارتباط بعالم السوق التي أضحت متعولمة، فإن عولمة منطق السوق بالصيغة النيوليبيرالية منذ أواسط السبعينيات على سائر القطاعات الاجتماعية ومنها التربية والتعليم، أضحى الاتجاه الضاغط الذي تفرضه القوى الدولية ابتداء من مؤسسات "بريتن وودز" إلى المنظمة العالمية للتجارة، فالكل الاقتصادي الذي انتصر على دولة الرفاهية الاجتماعية والنموذج الكينيزي والتدخلي الاشتراكي للدولة في علاقتها بالسوق، ومنه ما يجري من تفكيك للضوابط القانونية التي كانت تخضع قطاع التعليم للإرادة الحكومية الداخلية فقط ومنه إضفاء المزيد من الخصخصة والمرونة على سيرورات تنظيم العمل، وتراكم المنتجات وتوزيعها واستهلاكها.
     هذا الاتجاه ما يفتأ يدخل إلى المنظومة التعليمية مفاهيم طالما اعتبرت من أدوات التحليل الاقتصادي كالمنافسة وكفاءة الأداء وتعظيم العائد وزيادة المردودية وتأكيد الربحية والابداع والابتكارية وغيرها من المفاهيم المرتبطة باقتصاد المؤسسة الانتاجية، التي طالما كانت وطنية التمويل والعمالة والأصول، فأصبحت مع ثورة الاتصالات والتغيرات في نمط تنظيم الإنتاج والتسويق مؤسسة تتحرك في سوق كوكبية الحدود، مع عمليات الأقلمة والعولمة الجارية للمبادلات والمعاملات خاصة مع تزايد ظهور التجمعات الإقليمية وتطور مسار تحرير التجارة الدولية منذ الحرب العالمية الثانية مع الجولات الثماني للاتفاقية العامة للتجارة والتعريفة الجمركية التي توجت بتأسيس المنظمة العالمية للتجارة.
     ففي سنة 1994م وقعت أول اتفاقية عامة للتجارة والخدمات/General Agreement For Trade and Services(GATS/AGCS)، على اعتبار أن حوالي ثلثي الأنشطة الاقتصادية في الاقتصاديات الصناعية تندرج ضمن قطاع الخدمات، وفيه أدرجت خدمات التعليم والتربية والتكوين والتدريب بكل أنواعها ومستوياتها، مع أن خدمة التعليم والتربية ذات أبعاد لامادية: ثقافية، اجتمـاعية  سياسية، حضارية أيضا.(1)
     وقد أخذ مصممو الاتفاقية المبدأين الكبيرين اللذين كانا أساسا لاتفاقية (الغات) المتعلقة بتجارة البضائع، وعمموهما على تجارة الخدمات، وهما: مبدأ الدولة الأولى بالرعاية ومبدأ المعاملة الوطنية. إن الاتفاقية العامة لتجارة الخدمات تقنن عملية تحرير تجارة الخدمات بشكل لا يقبل التراجع خلال مفاوضات دورية.
     ولأن هذه الاتفاقية من خلال التعريف الإجرائي الذي تتبناه لمصطلح الخدمات تستبعد من قائمتها الخدمات الموضوعة تحت تصرف الإدارة الحكومية، وتلك التي لا تكتسي طابعا تجاريا (المادة 1.3 من الاتفاقية)، فإن هذا يوحي لأول وهلة بأن خدمات التربية ليست متضمنة فيها، إلا أن الواقع غير ذلك، فالمنظومة التربوية لا يمكنها أن تستجيب لهذه المعايير، ما دامت لا توجد ضمن أفق تجاري  أي منظومة تربوية تمول وتدار كليا من طرف الدولة.
     فمعظم النظم التربوية تدخل ضمن المجال الذي تعنيه الاتفاقية، ومعظم الدول لديها نظم تربوية خليط حيث يتعايش التعليم الخاص والعمومي جنبا إلى جنب بنسب متفاوتة، لذلك فقد أصبح خضوع قطاع التربية لقواعد اتفاقية تحرير قطاع الخدمات أمرا تلتزم به حوالي ثلث الدول الأعضاء (من 144 دولة سنة 2003م )، قبلت بإدراج قطاع التربية ضمن قطاع الخدمات، فقاعدة ( الالتزام الصمت/Standstill) تنص على أنه بمجرد أن يلتزم بلد التزاما معينا، فلن يكون بمقدوره أن يفرض قيودا جديدة على الممولين الأجانب للخدمات، إلا أن يعوض البلدان المتضررة من تلك الإجراءات الحمائية، ولذلك نجد أنه لا توجد أي دولة فتحت قطاع التربية للمنافسة الحرة بلا قيود، نظرا للمخاوف التي تبديها إزاء الانعكاسات الثقافية والاجتماعية لفتح هذا القطاع الحساس، خاصة وأنه يتوقع عملا بقاعدة (Rollback) أن تفتح البلدان الأعضاء أسواقها تدريجيا، لذلك نجد فرنسا قد أصرت على اعتماد قاعدة " الاستثناء الثقافي" الشهيرة، كما أن اليابان قامت بوضع عدة عوائق قانونية حمائية لثقافتها و" تربيتها" للحيلولة دون الانعكاسات السلبية المتوقعة من تحرير قطاع الخدمات، بينما يجري تمرير هذا التوجه التفكيكي والتسليعي إلى قطاع التربية والتعليم في البلدان النامية وخاصة الخاضعة لبرامج التعديل الهيكلي وما يسمى بالإصلاحات الليبيرالية التي تضفى على الاقتصاديات المدينة أو المتحولة من الاشتراكية كالجزائر.
     إن المحاذير المختلفة التي أشير إليها والتي تنجم من آثار تطبيق (الغات) تهدد الكيانات التعليمية والبنى الثقافية الهشة للدول النامية، وأمام تردي الأوضاع الاجتماعية والمادية لأعضاء هيئة التدريس يترك المستقبل مفتوحا أمام سيناريوهات لا يمكن التنبؤ بها – ففي رأي الباحث – قد تحدث حركات نزوح داخل الدولة الواحدة، بمعنى قد يقدم عضو هيئة التدريس في جامعة حكومية استقالته ليمارس التدريس داخل دولته، ولكن في جامعة أمريكية أو ألمانية، ويتقاضى راتبا يفوق راتبه بأكثر من 10 مرات، ثم أن ذلك لن يكلفه هموم الهجرة وآلام الغربة !!
     لأجل ذلك نادت الكثير من الدول بضرورة إعادة النظر وإيجاد آليات محكمة لضبط وسائل التعاطي مع هذه الاتفاقية بما يحقق لهذه الدولة اقتناص الفرص الإيجابية وعدم القضاء على بناها التعليمية الجامعية.(2)
     من هنا يسعى المقاولون من أرباب الشركات الكبرى الخاصة في البلدان الصناعية، لتعميم عملية  تفكيك الضوابط/La déréglementationو" التسليع " على قطاع التعليم، فنجدهم يعززون موقفهم بالاستناد إلى رؤيتين: (3)
- الرؤية الأولى، يعبر هنا أرباب المؤسسات الموظِّفة، الذين يعتبرون أن نظاما تربويا محرراً من رقابة الدولة، ومقسماً إلى هويات مستقلة بذاتها ومتنافسة، يمكنه بشكل أفضل أن يتكيف - تلقائيا وبسرعة- مع التطلعات المتغيرة للأوساط الاقتصادية ومع التحولات التكنولوجية المتعاقبة.
- الرؤية الثانية، تستند إلى أن التخلي عن القطاع الخدماتي التعليمي العمومي، سيفتح تلقائيا آفاق أسواق جديدة ومربحة.(4)
ومن هنا تنامى الاتجاه إلى اعتماد صيغ عديدة لخوصصة قطاع التعليم والتربية والخدمات المرتبطة به من طباعة الكتب والمقررات المدرسية وتوزيعها والخدمات الاجتماعية للطلبة كالإطعام والإيواء والنقل بالإضافة إلى الخدمة التعليمية ذاتها.
     الاتجاه الثاني: الاتجاه نحو خصخصة التعليم:
ومن انعكاسات العولمة النيوليبيرالية على قطاع التعليم عبر العالم تزايد الأخذ بالخصخصة في خدمات التعليم والتكوين ضمن سيرورة تفكيك الدولة المتدخلة، سيرورة مدعومة بعاملين أساسيين هما:
·   انتشار وتعميم استخدام التكنولوجيات الجديدة للمعلومات والاتصالات(NTIC) ضمن ما يسمى بسياسات إقامة البنيات التحتية لمجتمع المعلومات التي تدخل أصلا ضمن الرهانات الاستثمارية لشركات المعلوماتية الكبرى( برامج، وعتاد، وأجهزة اتصال رقمية، وشبكات أنترانت، وإنترنت وأقراص مدمجة/CD-ROM، ومحاضرات عن بعد، والجامعات الافتراضية… الخ).
·   القيود المتعلقة بإدارة الميزانيات الحكومية، وخاصة في البلدان الخاضعة لبرامج إعادة الجدولة لديونها الخارجية وبرامج التعديل الهيكلي في البلدان النامية، أو تلك التي في البلدان المتقدمة تعاني من استمرار النمو لكن بمعدلات ضعيفة.
ومنه تزايد اللجوء إلى صيغ جديدة لتمويل التعليم مثل: الرعاية المالية /le sponsoring  ونظام القروض الطلابية وعقود التوأمة بين الجامعات المحلية والأجنبية والتكوين حسب الطلب والتخفيضات الضريبية والدعم المالي الحكومي المباشر للقطاع الخاص التعليمي والبحثي من أجل التنمية…الخ.
أما "سوق التعليم" فتنقسم إلى خمسة أصناف: سوق التعليم ما قبل المدرسي والابتدائي، سوق التعليم المتوسط، سوق التعليم الثانوي، سوق التعليم العالي، سوق الخدمات المرتبطة بقطاع التعليم كالمطاعم والنقل والمطبوعات والكتب والصحة التعليمية والتجهيز…الخ. وهي الأكثر تعرضا لهجوم موجة الخصخصة.(5)
­­
ومن أشكال خصخصة التعليم:
1.  ظهور وانتشار المدارس والجامعات الخاصة بسرعة كبيرة تحت تمويل شركات خاصة وتحت إشراف بسيط للحكومات.
2.    تحميل الطلاب التكلفة الكاملة للتعليم العام أو جزء منها في صورة رسوم وضرائـب.
3.  تطبيق نمط الخصخصة من داخل النظام الحكومي، باعتماد بعض وزارات التعليم نظاما مزدوجا يحتوى مدارس وكليات نوعية وامتياز تتلقى جميع ميزانياتها من الحكومة، إلا أنها لا تفتح أبوابها إلا لنوعية خاصة من الأفراد مقابل دفع رسوم بسيطة نسبيا.
4.  تطبيق نظام القروض الطلابية، حيث يقوم أحد البنوك الخاصة أو العامة الوطنية أو الأجنبية بإقراض الطالب تكلفة دراسته، ثم يقوم البنك باستردادها بعد تخرج الطالب بفوائد محددة.(6)
ورغم أن نمط تمويل التعليم يظل حكوميا في معظمه في معظم دول العالم، حتى في الدول الصناعية الثلاثين الأعضاء في منظمة التجارة والتنمية الاقتصادية/OCDEخاصة في التعليمين الابتدائي والثانوي، وذلك بنسب تتراوح بين 55إلى 91%، مع ملاحظة تزايد نصيب القطاع الخاص من تمويل ميزانية التعليم في جميع مستوياته، خاصة في التعليم الجامعي، علما بأن قطاع التعليم يعتبر سوقا مغرية فعلا بما تجيشه الأسر والحكومات والشركات من موارد مالية تصل مئات الملايير من الدولارات سنويا، ومنه فإن حجم تجارة التعليم العالي تقدر حسب إحصائيات 1995م بأزيد من 27 مليار دولار، ويتوقع أنها تزيد حاليا عن 250 مليار دولار. حتى أن تجارة خدمات التعليم العالي في الولايات المتحدة مثلا تحتل مرتبة هامة ضمن الخدمات الخمس الكبرى المصدرة إلى الخارج والتي درت على خزينتها حوالي 7 مليارات دولار سنة 1996م.(7)
وهذه بعض التقنيات والصيغ الجديدة التي تتبناها بعض الدول لتمويل التعليم العالي:
-       تكييف مساهمة الطلبة المالية حسب أهمية الاختصاصات المسجل فيها (نموذج الجامعات الأسترالية).
-       حرية تحديد حقوق التمدرس من طرف هيئات التدريس. (نموذج التعليم الجامعي النيوزيلاندي).
-       إخضاع نسب رسوم التمدرس لمستويات الدخل العائلي للطالب (النموذج الجامعي البريطاني).
-       تقديم معونات للطلبة محددة لزمن معين (النموذج الجامعي الهولندي ).
-   تقديم صيغ لتعويض تكاليف التعلم حسب مستوى الدخل  (صيغ تلجأ إليها جامعات أسترالية، هولندية، نيوزيلاندية، سويدية الخ).
-       تخفيضات ضريبية أو دعم غير مباشر لقطاع التعليم العالي الخاص، (نموذج الولايات المتحدة).
-   تقديم حوافز لهيئات التدريس الأجنبية والطلبة الأجانب للالتحاق بالجامعات الخاصة والتنافس على استجلاب أكبر عدد منهم بالتركيز على طلبة البلدان الغنية الخليجية ودول جنوب شرق آسيا الصاعدة اقتصاديا.(8)
ومع تنامي ذلك الاتجاه تتزايد هنا وهناك النقاشات والمساجلات حول الجدوى الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والسياسية والسيادية لمثل هذا التوجه الذي تعمد من خلاله الحكومات إلى د فع مؤسسات التعليم لتبني استراتيجيات المؤسسات الاقتصادية الخاصة، وهو اتجاه يكرس تسليع قطاع التربية والتعليم، كما يثير الجدل حول مسألة تقاسم تكاليفه بين العائلات والشركات والدول وأيضا مسائل تتعلق بنوعية الخريجين وتكريس الطبقية المعرفية في المجتمع.
 
الاتجاه الثالث: اعادة تموقع  الحكومي سعيا لافتكاك مكان في الأسواق المندمجة:
تسعى المنظومة التعليمية الحكومية خاصة العليا لاجتزاء حصة من السوق العالمية للتعليم من خلال تطوير هياكلها ومضامين برامجها وخدماتها لتوفير ميزة تنافسية لمخرجات التعليم لتساهم بها في نموها وتقدمها وتنميتها الوطنية، فهذه وزارة التربية ووزارة الشؤون الخارجية لفرنسا تسعيان من خلال إنشاء وكالة تربية فرنسا/Edufrance، مع إدارات الجامعات الفرنسية والمدارس الكبرى المتخصصة من أجل ترقية عرض التعليم العالي الفرنسي في السوق العالمية للتعليم العالي.
بينما تقوم حكومات دول الاتحاد الأوروبي ودول الشراكة الأورومتوسطية، بتبني نظام الليسانس والماجستير والدكتوراه/LMDالأنجلوسانكسوني لتمكين طلبتها من المنافسة في سوق تعليمية بحثية متعولمة.
ومن خلال تقارير المنظمة العالمية للتجارة يتبين أن عددا من الدول تجري عملية استبدال التشريعات التنظيمية التفصيلية الناظمة لقطاع التعليم العالي بـ " قوانين- إطار"  تحدد فقط الأهداف الكبرى التي ينبغي استهدافها، تاركة للمؤسسات التعليمية كامل الحرية لتختار وسائل بلوغها. فالدولة تمنحها استقلاليتها مقابل تخفيض الاعتمادات المالية التي اعتادت منحها إياها سابقا، بهدف حفزها على الدخول في السباق والتنافس لتحسين نوعية خدماتها ومنه سعيها لاستكشاف فرص تسويق منتجاتها التعليمية في السوق الدولية، مع كل ما ينجر عنه من انعكاسات على اتساع الطبقية والفجوات التعليمية وتنميط الثقافة واللغة داخل الدول وبين أمم الشمال والجنوب.(9)
وفي هذا الاتجاه تسعى دول نامية كثيرة للبحث لمنظوماتها التعليمية خاصة العليا عن شركاء أجانب لمساعدتها على عبور فجوات التخلف المعرفي والتكنولوجي وتدعيمها في تنفيذ برامج التنمية. فتجدها تنخرط في شراكات مع الدول المتقدمة والمنظمات الحكومية الدولية مع تعرضها لضغوط سيادية تقيد حريتها في صياغة سياساتها التعليمية والتنموية الاجتماعية.
إن هذا التوجه الحكومي إلى زيادة قدرة منظوماتها التعليمية التنافسية بقدر ما يزيد من الفرص التعليمية بإحداثه التكامل بين التعليمين الحكومي وغير الحكومي، الخاص الوطني والأجنبي، فإنه يكفل أيضا إضفاء معايير الحكم الراشد على هذا القطاع. كما أن هذا التوجه يراهن على إدخال المنظومات التعليمية المحلية ضمن ديناميكيات التنافس العالمي لكسر الجمود وحلقة البيروقراطية التعليمية وتخلف أساليب ووسائل التعليم والتكوين وتحديث الأطر والبنى الفكرية والمنهجية والتجهيزية المنظمة للنظم التعليمية الموروثة عن عصر المصنعي والزراعي وغير المتماشية مع متطلبات مجتمع المعلومات.
 
الاتحاه الرابع:  وتغير المناخ الثقافي للسياسات التعليمية في ظل العولمة:
تستند أطروحة التنمية من خلال المدخل التكنولوجي إلى المراهنة على أهمية التكنولوجيا في تغيير أساليب ونظم وفلسفة التعليم حيث تراهن على تأثير التغير التكنولوجي على عمليات الإدارة والتمويل والتدريس وصنع القرار والسياسات التعليمية وأساليب التوجيه داخل المنظومة وخارجها في سوق العمل المتحولة هي أيضا، حيث تتجه تكنولوجيات الاتصال والمعلوماتية والإعلام الرقمية المتجددة إلى إدخال المنظومات التعليمية في جميع دول العالم في مرحلة حضارية انتقالية تجريبية تنقلها من عصر إلى عصر معيدة تشكيل جميع الأنساق الاجتماعية تشكيل جديدا.
إن من أبرز آثار ثورة تكنولوجيا المعلومات على ثقافة التعليم، التراجع المتسارع لدور التلميذ التقليدي، وأساليب التعليم التلقينية، أي بداية نهاية التلميذ التابع والمنقاد إلى السلطة الفوقية للأستاذ والكتاب، وبدايات التخلص من حالة  النمطية، والسكونية والطفيلية الحاجرة على ملكات تشغيل الدماغ والتفكير التحليلي النقدي فضلا عن التفكير المبادر الإبداعي.
إن هذه الوضعية تتطلب صحة نفسية وذهنية عالية: وهو ما يستوجب توافر استقلالية عالية وتحمل للمسؤولية وقوة في الشخصية وقدرة على اتخاذ القرار وامتلاكا لمرجعية الخيارات وإطلاقا للطاقة الذهنية في أعمال الاستكشاف والاستقصاء والتحليل والنقد والتدرب على حسن الإبحار في محيطات المعلومات وتحديد وجهة الاستكشاف المرغوبة وحسن إدارة الوقت، والتمتع بمهارات التعلم الذاتي والتعلم التفاعلي.
كما تفرض شبكة الإنترنت على المتعلم المعاصر النظر بصورة تحليلية توليفية شمولية على خريطة الفكر الإنساني، من خلال روابط منطقية ومنهجيات العرض ودقة التعبير وقدرا من النظرة المتعددة الاختصاصات.(10)
 
الاتجاه الخامس: تغير العلاقة بين عالمي العمل والتعليم:
إن المتأمل لعالم الشغل الموروث عن العصر الصناعي يلاحظ طغيان النموذج التايلوري في تنظيم وإدارة عالم الشغل وفق النمط التنظيمي الهرمي الذي يشابهه التدرج الهرمي للمستويات التعليمية والإدارة التعليمية، وهذا المنطق يشدد على الفصل الشديد بين العمل المنتج والعمل غير المنتج، وفق المنظور المادي لنظرية القيمة.
لكن مع تغير بنية الإنتاج الصناعي من بنية متمركزة حول الإنسان الذي يشغل آلة صماء إلى إنسان متفاعل مع آلة تفاعلية بدورها من خلال شبكات المعلوماتية والروبوتية والأتمتة والنظم المعلوماتية الخبيرة ومنه تزايد أهمية التنظيم الشبكي للإدارة والإنتاج والتوزيع والتسويق والتمويل وإدارة الأزمات والمخاطر وتزايد عملية الفصل بين العمالة المتخصصة والعمالة غير المتخصصة  حيث يتزايد تعذر إمكانية تغيير العامل بعامل آخر نظرا للتخصص الفائق الذي تتطلبه مختلف العمليات الإنتاجية التي لم تعد تمكن من الاستبدال السهل لعامل بعامل آخر لآن المهام أصبحت تقتضي مهارات إبداعية ابتكارية غير المهارات التكرارية الروتينية التي تميز عمالة الأمس.
كما يجري التحول في عالم الاقتصاد من اقتصاد مصدر القيمة المضافة فيه هي عضلات الإنسان والموارد الطبيعية والمالية إلى اقتصاد يقوم على مصدر قيمة لا مادي، أي معرفي، معلوماتي، ذهني، خيالي. مما يتطلب مرونة لدى الخريجين للتكيف مع أشكال ونظم ومهارات العمل.
فالعولمة لها علاقة بظهور مجتمع الخدمات مجتمع اقتصاد المعرفة ومجتمع المعلومات، فالمجتمع ما بعد الصناعي أو الفائق التصنيع، أحدث ويحدث قطيعة مع نظم ألفناها ومهن ومسارات ترقية تتميز بالاستقرار والرتابة، فالاختراعات تتسارع والتطوير في التقنيات تترى أجيالها، مع تناقص لكلفتها وإمكانات تسويقها، وتحول للتقنية من تقنية نخبوية إلى تقنية جماهيرية.
كما أن الشركات أصبحت تصرف المزيد من ميزانياتها على التدريب المستمر للعاملين وتكييفهم لتحولات التقنيات وأساليب العمل والإدارة وتوجهات أسواق الإنتاج والعمل والتوزيع، كما تعقد عقود التكوين حسب الطلب مع جامعات متخصصة، بل تمول بميزانياتها ميزانيات جامعات ومدارس تابعة لها.
يتوقع أن يمر الإنسان المنتج مستقبلا فيما بين 4 إلى 6 تحولات مهنية خلال حياته المنتجة فالإنسان المنتج لن يكون كراكب القطار يبدأ من نقطة الانطلاق ويصل إلى خط النهاية عند سن التقاعد مارا بعدة محطات حياتية، بل سيتحول حاله إلى راكب ميترو يركب ثم ينزل بعدة محطات حتى يصل إلى التقاعد: القاعدة هي التبديل الدوري في الوظائف والأعمال والمناطق وليس استقرارها ومن ثم مرونة اكتساب المهارات الجديدة تصبح مفتاح إنسان المستقبل.
إن ما أهم إفرازات العولمة على الصعيد العلمي هو بروز مهن ذات تخصصات ترتبط بالمعرفة بالغة الدقة و يتجلى ذلك في المهن التالية:
الأولى كمهن: مهندس المعلومات، مهندس الذكاء الاصطناعي، مهندس التقنيات الحيوية مهندس تقنيات الليزر أو التقنيات الطبية، مهندس الروبوتات، مهندس البيئة، مدراء خدمات المعلومات.
أما الثانية كتلك المهن التي تجمع بين التقنية والإدارة والاقتصاد والمال والاجتماع وعلوم السلوك والإعلام والسياسة مثل: مهن الاستراتيجيات المالية، استراتيجيات السوق بمتغيراتها المتزايدة العدد، والتفاعلات وتعقيداتها وصولا إلى تكوين الرؤى واتخاذ القرارات في عالم متفاعل الأسواق والمساهمين والمستهلكين.
إنها بيئة عمل تتميز بالتنافسية الشديدة، وحرب المعايير الاجتماعية والاقتصادية والتأهيلية المستعرة والمتزايدة فيما يتعلق بنوعية وكلفة المنتجات والخدمات مع ما تتطلبه من تطوير مهارات تعليمية وخبرات مهنية، ومنه فقدان أعلى المهارات لفرص العمل بسبب تضخم أعداد الخبرات عالميا وانفتاح أسواق العمالة وانهيار الحدود الوطنية جمركيا، وهشاشة إجراءات حماية العمالة الوطنية.
لقد انتهى عهد الرعاية التي توفر الضمانات الوظيفية الدائمة والمداخيل المستقرة والتقديمات الاجتماعية والصحية والتربوية المغرية. فالشركات الكبرى أصبحت تستقطب عمالة متعددة الجنسية بمختلف أشكال التعاقد عبر التوظيف الخارجي وبواسطة عقود بالبريد الإلكتروني لإنجاز الأعمال إلكترونيا وتحويل أموالا الأجور إلكترونيا أيضا بمعزل عن تدخل السلطات الحكومية.
إنها علاقات عمل يتلاشى فيه العنصر الإنساني، ويصبح التعامل عبر الآلة للتعاقد وللترقية ودفع الأجر والتسريح فلا قوانين عمل تقدم ضمانات دائمة للعمالة، مما يثير لدى الإنسان العامل شعورا متزايدا بالاستفراد أمام آلة السوق وقوانينها المتوحشة أحيانا كثيرة.
فالبطالة تصبح واقعا فعليا واحتمالا يواجه الطبقة الشغيلة ويزيد من قلقها على المستقبل ومن صعوبة تخطيط الحياة العادية وعدم القدرة على تلبية مستلزمات الحياة اليومية بسهولة بمداخيل منتظمة، إذ أن خزان من البطالين ضروري لإدارة اقتصاد العولمة لتجويد الإنجاز وارتفاع الخبرات والمهارات وقلة الكلفة والقبول بشروط عمل أقل تطلبا من حيث التقديمات والضمانات.
إضافة إلى زوال بعض مهن الوسطاء كالتوزيع والتسويق والمبيعات التي أصبحت بدورها تتم عبر الإنترنت وسوق الإعلانات والمبيعات المباشرة دون الحاجة لوسطاء (سوق الاقتصاد الإلكتروني و المنافسة للوسطاء).(74)
مع العولمة الجارية للأنشطة والأعمال واجتياح الثورة المعلوماتية يزداد التركيز علىي حاجة ماسة الموارد البشرية ذات المستويات والمهارات الفنية العالية لتلبية احتياجات الوظائف في مجال الخدمات وصناعة المعلومات والإنتاج كثيف المعرفة.
لقد أصبحت الميزة التنافسية النسبية لأية دولة أو أمة تقاس بنسبة المعرفة من الناتج القومي الخام، كمعيار للتقدم ونجاح البرامج التنموية، ومنه أصبحت منظومة التعليم وخاصة مؤسسات التعليم العالي تخضع للمعايير المنتشرة في سوق العمل مثل الربحية والتنافسية والجودة، متخلية عن وظيفتها الأساسية المعهودة وهي التربية والتثقيف ونقل التراث وإعادة إنتاج الأنماط الاجتماعية السائدة.. (11)
ملامح مستقبلية
        تبدو المنظومة التعليمية التربوية  بالوطن العربي في حاجة ماسة الى توظيف مقاربات حديثة تعيد النظر في الأدوات التعليمية والمسابقات التدريسية  و المناهج التطويرية تمهيدا لاقامة مجتمع المعرفة.
 
المراجع:
(1)- الحديث عن " الغاتس GATS" (الاتفاقية العامة لتحرير التجارة والخدمات)، يجرنا إلى الحديث عن بعض المحاذير المحيطة بها نذكر أهمها:
أ. إن " الغاتس GATS" اتفاقية يحيط الغموض بتفسير قواعدها والتزاماتها الرئيسية، ووفقا للاتفاقية بأنها تنطبق على جميع الإجراءات المؤثرة في الخدمات، باستثناء الخدمات المقدمة من خلال ممارسة السلطات الحكومية لاختصاصها، وتفسر الاتفاقية هذه الفقرة بأنها تعني أن الخدمة تقوم على أساس غير تجاري، أو تكون غير خاضعة للمنافسة مع مقدمي الخدمة الآخرين، وهنا ينشأ جدل بشأن خدمات التعليم، فالبعض يرى أن التعليم الحكومي الذي تموله وتقدمه الحكومة، يستثني من أحكام الاتفاقية، بينما يرى البعض الآخر أن مقدمي الخدمة من الحكومة والقطاع العام قد لا يستثنون نظرا لأن عبارة غير تجاري وغير خاضع للمنافسة، تعد عبارات مطاطة، ويزداد التفسير تعقيدا عندما يوجد نظام عال مختلط عام وخاص وتوجد المنافسة بينهما.
ب. إن "الغاتس GATS" تهدف إلى أن تشمل أكبر عدد من قطاعات الخدمات، وعلى الرغم من حق كل دولة في تحديد التزاماتها إلا أن هناك عادة ضغوطا تمارس على الدول النامية، وهو ما يعني خضوع هذه الأخيرة أسواقها لغزو الجامعات الغربية ولإشكال التعليم العالي الأجنبي، وللاستزاد أكثر اقرأ:
- محيا زيتون، المرجع السابق، ص 280-281، (بالتصرف).       
(2)-اقرأ بهذا الصدد: ردود أفعال الأمريكولاتنيون خصوصا الباحث الفنزويلي "Carmen Gancia Guadilla" في دراسته:
-  Carmen Gancia Guadilla, «General Agreement on Trad in Services (GATS) and Higher Education in Latin America, Some :deas to contribute to the discussion», Paper Prepared for the Convention of Universities Memters of Columbus. Paris, july 2002, 21 Pages.
وكذا دراسة الباحثة " جوليا نيلسن Julia Nielson" المقدمة ضمن فعاليات ملتقى التجارة في الخدمات التعليمية باستراليا حول:
- Julia Nielson, Bridging The Divide : Building Capacity For Post- Secondary Education Through Cross-border provision. Unesco/OECD Australia Forum on Trade in Educational Services (Situating the GATS), Sydny, 11-12 November 2004, 16 Pages.
- Jane Knight, Trade In Higher Education Sevices, The Implication of GATS on higher edication. London: the observatory on bonderless higher edication, UK, 2002, pp 05-08.
(3)- مع ظاهرة تسليع الخدمات التعليمية، برزت على سطح النظام التعليمي الغربي والأمريكي جامعات الشركات، وبلغ تعدادها أكثر من 400 جامعة على مستوى العالم منذ حوالي عشر سنوات، ووصل حاليا إلى ما يتجاوز (2000 جامعة) مثل جامعة "موتورولا" التي تصل ميزانيتها إلى 120 مليون دولار، وتدير 99 موقعا للتدريب في 21 دولة، وجامعة "فونكس Phoenix University " وجامعة " بيرسن Pearson University" البريطانية، وتقدم هذه الجامعات برامج تدريبية باهضة الثمن، وخدمات تعليمية واستشارية، يمكن أن توصف هذه الظاهرة المتزايدة باضطراد بالجامعات المقاولاتية "Université entrepreneuriale" – التسمية من اقتراح الباحث بناءا على الترجمة من الفرنسية – إذ أن الجامعات أصبحت تسعى بشتى الطرق لتعظيم أرباحها والدخول في شراكة اقتصادية في مجالات متعددة، اقرأ بهذا الصدد:
- Kasper Barr Kholt, La Processus du Bologne et la Toéorie de  L’intégration : convergence et autonomie. Unesco-CEPES, Centre Européen Pour l’enseignement Supérieur, Volume XXX, Numéro 1 Mars 2005, p 30-31.
- Sorine Zaharia et Ernest gibert, « L’université entrepreneuriale dans la Société de Savoir », L’enseignent Supérieur en Eurpne, Op Cit, p 34-44.
(4)- Chems Eddine Chitour, Mondialisation L’espérance ou Le Chaos. Ed, ANEP, Alger, 2002, p149-152.
5)-  Chems Eddine Chitour, Op Cit, p152 -154.
(6)- لمياء محمد أحمد السيد، المرجع السابق، ص 90.   
(7)-Chems Eddine Chitour,Op Cit,p158.   
(8)- Op Cit, p 161.
(9)- بهذا الصدد توجد في الأردن ومصر ولبنان وبلدان الخليج علاقات ترابط وتعاون متزايدة بين جامعات ومعاهد عالية عربية ففي قطر أقيمت حديثا المدينة التعليمية، وهي منطقة حرة تضم حاليا ثلاث كليات جميعها موزع للجامعات الأمريكية، هي كلية طب جامعة كورنيل، وكلية هندسة جامعة تكساس، وكلية الفنون التشكيلية جامعة فرجينيا كومولث، وهذه الجامعات تعادل الشهادات تماما كالامريكية، كما تم افتتاح جامعة "كارنيجي ميلون Carnegie Mellon University" لدراسة علوم الحاسوب وإدارة الأعمال وذلك سنة 2005/2006م، وفي الإمارات توجد جامعات عالمية مثل جامعة "اللوتاه" في دبي، وهي تقوم بالتعاون مع عدد من المنظمات الدولية برامج جامعية في العديد من الاختصاصات العلمية، وتتواجد في مصر الجامعة الفرنسية، التي أنشئت في 2002م والجامعة الألمانية في 2002/2003م، إنه منطق السوق العالمي مع الانفتاح العالمي غير المدروس، تزايدت المؤسسات التعليمية الخاصة والعابرة للحدود، فعلى سبيل المثال وإلى غاية نهاية 2005م، يتواجد بأندونسيا أكثر من 1200 جامعة خاصة و 57 حكومية، تشكوسلوفاكيا 36 مؤسسة تعليمية جامعة خاصة و25 حكومية، كازاخستان، وبعد عامين فقط من إصدار مرسوم الجامعات الخاصة، وصل عدد جامعاتها الخاصة 65 مؤسسة، وبالمقابل لا يتواجد في بريطانيا إلا جامعة خاصة وحيدة –لحد كتابة هذه السطور- هي جامعة "Buckingham" وهو ما يجعل الدول العربية والنامية في حاجة إلى مراجعة حساباتها حتى لا تكرس مبدأ الكم على حساب منطق الجودة والنوعية.       
(10)- مصطفى حجازي، الصحة النفسية، منظور دينامي وتكاملي للنمو في البيت والمدرسة. ط1، الدار البيضاء- المغرب وبيروت- لبنان: المركز الثقافي العربي، 2000م، ص 304-307.
(11)- مصطفى حجازي، المرجع السابق، ص307-311.
(12)- لمياء محمد أحمد السيد، المرجع السابق، ص 94-


المصدر : http://www.arabthought.org/node/655