الاثنين، 17 أكتوبر 2011

كاريزما الشارع التونسي وقوة التغيير السياسي

 

بقلم:   بوحنية قوي
 
 
     هذه الورقة تحاول قراءة الثورة الشعبية التونسية التي أعلنت يوم 14 يناير 2011 قطيعة تاريخية وسياسية مع عهد تميز بالقمع وكبت الحريات. سنحاول تلمس نقاط التوهج في الثورة التي تجاوزت مفاهيم "الاحتجاج"و"الاحتجاجات الممتدة " لتؤرخ لميلاد ثورة شعبية بأتم معني الكلمة، وتعتبر شعبية لأنها ليست ثورة لفرز طائفي معين، أو لنخبة بحد ذاتها، إنها حركة استمّدت من الشارع وتبناها، وأشعل أوراها "الشارع"، ولذا يبدو "الشعب" و"الشارع" و"الثورة" بحاجة إلي سن مفاهيم قانونية جديدة، ونحت مصطلحات دستورية تحاول وضع "ماهية جديدة" لثورة الشارع الذي تضافرت عوامل متشابكة في صموده، وتلك هي الثورة، الثورة التي جعلت مفاهيم كثيرة تدخل قاموس السياسة والدساتير، وجعلت الباحثين يطرحون تساؤلات هامة، مثل ماذا لو لم يصمد الشارع التونسي للأسبوع الرابع؟
ماذا لو لم يرفض الجيش دخول ساحة الاحتراب بين نظام "بن علي" وسلطة الشعب؟ ماذا لو كان الحراك الشعبي في مدينة بعينها دون مدينة أخري؟. ماذا وماذا؟(1) إذن هي ثورة شعبية حركية نقلت الحراك لكل فئات الشعب، وجاءت لتعلن القطيعة بين المجال والحيز الخاصPRIVATE SPACE والحيز العام PUBLIC SPACE ، وهو سر قوتها(2) كما أنها ليست قضية خبز وماء ولكنها مسألة ذهن وفكر وحرية، وهي في ذلك تتوافق مع أهم مرتكزات ومفاهيم الديمقراطية(3).
    أولا: إرهاصات وقوة الشارع التونسي كسلطة تغيير:
    في مقاربته الرصينة لمفهوم السلطة Autority)) حاول ماكس فيبر(Max Weber) أن يضع للسلطة أبعاداً ثلاثة: سلطة تقليدية تستمد وشائجها وأسسها من روابط التقاليد وأواصر العصب، وسلطة كاريزمية ، ترتبط بالشخصية الآسرة والمؤثرة، وسلطة قانونية التي تأتي لاحقا لتبسط نفوذها علي السلطة السابقة وتعلن المبادئ الراسخة لقوي العقل، وهيمنة الشرائع القانونية وتؤسس للحق والمسؤولية ، وقانون المحاسبة والمساءلة.
    عند قراءتنا المتأنية لمفاهيم السلطات سنجد أن "الشارع" التونسي استطاع بلغة الإبستومولوجيا أن يمتلك سلطة "كاريزمية"، وهو ما يمكن أن نطلق عليه "كاريزما الشارع"، إنها الشخصية الآسرة الساحرة التي سحقت كل الوشائج القائمة علي العصب والتفاوت الطبقي، ومفاهيم الطبقات.
    أجل، استطاع الشارع التونسي بسلطته الآسرة أن يحرك الشعب من أقصاه إلي أقصاه، إذ لم يشعر جزء من أبناء الشعب التونسي أن هذه الثورة ليست ثورته، أو أن هذه الثورة ستكون نواتجها ومخرجاتها ضده، لم يشعر بسيف"الحجاج"إلاّ تلك الفئة المتنفذة في الحكم التي نهبت ثروات الشعب وجثمت علي أنفاسه عقوداً طويلة. ولذا، لاحظنا أن مواطني مدينة "حمام سوسة"مسقط رأس الرئيس المخلوع حموا الثورة ووقفوا إلي جانبها، وتلك نقطة تحسب لكاريزما الشارع التونسي، ولو قمنا بمقارنة سريعة للاحظنا أن المتتبع للشأن اللبناني، يقرأ كل تحرك شعبي قراءة طائفية سياسوية ومناطقية! وهذه ملاحظة جديرة بأن نتوقف عندها.
    إن كاريزما الشارع التونسي تستمد وهجها من التراث النضالي الطويل لشعوب المغرب العربي التي قارعت الاستعمار الفرنسي، وعرفت أولي تشكيلات اتحادات الشغل، ولعل الاتحاد التونسي للشغل بتونس أحد ملامح وركائز هذا الحراك .
ثانياــ كيف نفهم قوة الشارع التونسي؟
    يفضل بعض المفكرين تسمية "تحركات الشارع" عن تسمية التحركات في "الشارع" ويذكر بهذا الصدد المفكر علي خليفة الكواري خاصيتين تميزان هذا الحراك:
    أولاهما: خاصية تعبير التحركات عن الشعب بكافة مكوناته دون إقصاء أو تمييز علي أساس العرق أو الدين أو المذهب. إن تحركات الشارع التي نقصدها هي تلك الحركة الوطنية ذات الأهداف الجامعة وليست حركة فئوية، وهي حركة يشارك فيها النشطاء من مختلف القوي التي تنشد التغيير، وإن اختلفت درجة المشاركة وتعددت وسائلها. ولذلك فإنها تحركات تختلف عن مجرد التحرك في الشارع من أجل الاستقواء بالأجنبي(الثورات الملونة) أو اتخاذ التحرك ذريعة لاستقطاب تدخل خارجي لا تحمد عقباه, فتلك اضطرابات قد تمهد لحروب أهلية.
    ثانيتهما : خاصية الشمول لكافة سبل التعبير السلمي المتاح سواءً رضيت عنه السلطة أم لم ترضَ. ولذلك لا تنحصر تحركات الشارع في المظاهرات والاعتصامات. فإلي جانب ذلك يمكن اعتبار الندوات والمؤتمرات ونشاطات المنظمات غير الحكومية والنقابات والجمعيات المهنية، التي تجمع الطيف السياسي في نشاطات وحوارات وطنية مشتركة جزءاً من تحركات الشارع، طالما كانت تجري خارج الهامش المسموح به من قِبَل السلطة أو لا ترضي عنه السلطة في العادة. وكذلك يمكن اعتبار المدونات والنشر الالكتروني والكتابة في الصحف والحديث الجريء في وسائل الإعلام وتسمية المظالم بأسمائها وتعريف الاستبداد والفساد( الكبير منه قبل الصغير) وتحديد مرتكبيه هي أيضاً من تحركات الشارع.
    فلم يعد يُجدي اليوم الحديث العام عن الاستبداد والفساد والتخلف وضرورات الإصلاح، فالحكام وأجهزتهم الإعلامية تتحدث أكثر مما يتحدث المثقفون والمصلحون، وإنما يجب تسمية المستبدين بأسمائهم، وكذلك المفسدين والفاسدين وتحديد أوجه الخلل والخراب المطلوب إصلاحه بشكل واضح وصحيح لا يترك لبسًا ولا يسمح للمستبدين والمفسدين أن يخطفوا راية الإصلاح ويحرفوها عن اتجاهها الصحيح، ومنها ما يتعلق بهم شخصياً. وأخيراً وليس آخراً يُعد من تحركات الشارع أيضاً، كل ما يتعلق بنمو القدرة علي استخدام التقنيات الإلكترونية وسبل النشر البديلة والحوار عن بعد، والتواصل من خلال البريد الإلكتروني والرسائل التليفونية. فهذه الأساليب الحديثة كسرت احتكار السلطة للمعلومات، وأتاحت فرصة طرح ونشر المعلومات البديلة من خلال وسائل لا تستطيع السلطة السيطرة عليها بالكامل، الأمر الذي أدي إلي اتساع هامش التعبير خارج ما ترضي عنه السلطة.
    وجديرٌ بالملاحظة أيضاً من خلال معظم تجارب تحركات الشارع العربي في الماضي، أن تحركات الشارع حتي وإن توافرت فيها خاصيتا التعبير عن الشعب بكافة مكوناته، وتمتعت بالشمول من حيث أساليب التعبير، فإنها قد لا تكون كافية لتحقيق الأهداف الوطنية، ومنها الانتقال إلي نظام حكم ديمقراطي. ومثال ذلك تحركات الشارع الجزائري عام 1988 وتحركات الشارع التونسي في عهد بورقيبة، فتلك تحركات قصرت عن تحقيق القصد الشعبي من التحرك.(4)
    ولا يعني ذلك إطلاقا أن الجماهير تعيش علي الخبز وحده، فالمجتمعات هي كيانات مركبة ومتداخلة تعيش بصورة كلية في ميادين شتي ومختلطة في كل اللحظات . ولكن يمكن القول أيضًا إن الجماهير تختار إستراتيجيات سياسية في حقب أو فترات مختلفة بقدر ما تتوفر معطيات مناسبة أو غير مناسبة، وإن إستراتجيية العمل أو النضال الانتفاضي هي الاستثناء في التاريخ السياسي والاجتماعي لأي شعب أو مجتمع بغض النظر عن مستوي تطوره السياسي والاجتماعي . يشير كل ما حدث في أقطارنا العربية، إلي أن الجزء الصغير نسبيًا من النشطاء الدائمين - أو شبه المتفرغين - للنضال السياسي تحوّلوا خلال ربع القرن الماضي بصورة حاسمة عن اليوتوبيات العلمانية والتقدمية إلي يوتوبيات مضادّة، وبالتالي لا يكون السؤال السليم ميدانيًا: لماذا لم تتدخل الجماهير في الصراع حول قضية الديمقراطية، بل متي تتدخل الجماهير ولصالح أي طرف؟
    يتمتع الحراك ذ مهما تكن علته وغايته وشعاراته - بطبيعة تعقيدية يلتقي فيها الزمان والمكان ، وتتداخل فيها الأحلام والتصورات والقيم، وهو ذو طابع صراعي حتي لو كان سليمًا ومنظّمًا، فعنفيّته أحيانًا من صلب صراعيتّه الضدّية. وحين يواجه بالعنف والقمع يزداد أكثر. أما الأمر المضحك فكون هذا الحراك في الأصل نتاجًا للسلطة التي جارت المعارضة في الخروج إلي الشارع. ولا بد من الإشارة هنا إلي أن العملية الحراكية بكل أنواعها هي تفكير أيضًا بطريقة أخري ورؤية،هي خطاب بلغة تحليل للخطاب الجديد، خطاب يحتوي علي الرموز والإشارات والتعبير، ويحتاج إلي الفهم والتأويل.
    فلم يعد البيان والكتابة والجمال هي الخطاب، بل صارت كل علامة تحتاج إلي الفهم والتأويل, و تؤدي رسالة هي خطاب. وتعتبر مساحة المكان في الترسيخ وتأسيس العملية الديمقراطية عاملا أساسيا في بلدان عربية ما زالت القبضة الأمنية والاستبداد فيها أكثر استفحالا، ويعتبر تحرك الشارع بارقة أمل في التغيير، ولو كان هذا التحرك محدودا وفي مناطق معينة، كما قد يكون مرتبطا أحيانا بجهة معينة أو بجماعة عرقية - إثنية متميزة في منطقة ما.(5)
    أصبحت التقانة تتحكم في نبض الشارع وتؤجج حراكه وفاعليته. إن التطورات التقانية والمعلوماتية وهوامش الحرية الأكثر اتساعا في السنوات الأخيرة تسمح بتطوير الكتابة في هذا الشأن، علي رغم ما يلاحظ من أن العملية الحركية في الشارع العربي والتغير الدولي هما أكثر سرعة وتغيرا وتطورا من العملية التنظيرية والكتابة الاتفاقية الاستشرافية، ولعل سبب ذلك مايلي:
من الطبيعي أن الحركة علي المستوي الاجتماعي والسياسي أكثر سرعة، ولكن هي تتم ضمن تصورات وقيم مصاحبة لها علة وغاية ولا تنفك عنها. ومن هنا لم يعد للفصل من قيمة، وبات من المتجاوز الحديث عن الفصل بين الحركية العملية والحركية النظرية، فالحركة واحدة متداخلة ومتقاطعة، وهنا نشير إلي الدور الذي أداه العالم السوسيولوجي ماكس فيبر في كسر النظريات التقليدية في فهم هذه العلاقة بطرحه قضية الفهم والتغيير.(6)
     ثالثاـ ثورة تونس. جراحة عفوية بمنظار دقيق وأفق مفتوح:
    يعتبرالباحث المصري عمار علي حسن أن ما شهدته تونس حدث غير مسبوق يضاف إلي سجل الثورات التاريخية التي صنعتها الشعوب فلم يشهد التاريخ سوي ثلاث ثورات مهمة هي: الثورة الفرنسية في العام 1789 والثورة البلشفية في العام 1917والثورة الإيرانية في العام 1979 وها هو الشعب التونسي يسجل اسمه في سجل الثورات(7) الخالدة بانتصاره علي واحد من أشرس الأنظمة القمعية في العالم الثالث وخاصة العالم العربي ألا وهو نظام زين العابدين بنعلي الذي حكم تونس بالقمع والقهر لأكثر من 23 عاما.
    إن " نظام بن علي كان من أشد الأنظمة القمعية في العالم العربي، حيث كان يستخدم قوات الأمن في فرض سطوته علي البلاد، ووضع القيود علي وسائل الإعلام بشكل غير مسبوق، وكبت الحريات، ولم يستفد من النمو الاقتصادي الذي شهدته تونس في عهده سوي قلة من بطانة حكمه، في حين كان الشعب يعاني البطالة والفقر، وعمل النظام كذلك علي تدمير الأحزاب السياسية، والنقابات المهنية والعمالية، دون أن يدري أن كل ذلك سيولد الانفجار في لحظة ما، ولما حانت تلك اللحظة التي انطلقت مع انتحار بائع متجول جامعي (محمد البوعزيزي) من خلال إضرام النار بجسده في الشارع، انتهزتها الطبقة العاملة فرصة، وعضت عليها بالنواجذ، فاندلعت تظاهرات رفعت شعار " الخبز"، ثم تضامنت معها الطبقة الوسطي، مطالبة بالحرية، ولم يستطع بن علي السيطرة علي الأوضاع بعد أن فقد السيطرة علي الشرطة والجيش، فاتخذ قراره بالرحيل الي خارج البلاد في 14 يناير الماضي، ما يعتبر واحدا من أهم انتصارات الشعوب الـ40 الماضية، التي لم تعرف فيها المنطقة العربية سوي الانقلابات العسكرية أو التغيير من داخل الأنظمة الدكتاتورية نفسها." (8)
     ومع زخم الأحداث وتدافعها أصبح السياسي أمام تساؤلات جوهرية مثل هل وضع تونس جاهز للحرية العاقلة والتداول السلمي للسلطة والانفتاح التعددي علي مختلف القوي والشرائح أم ستتحول الانتفاضة إلي نموذج إضافي يثير المخاوف لدي دول الجوار والمحيط العربي؟
تونس يمكن أن تشكل في حال نجاحها في تخطي إرباكات المرحلة الانتقالية ذلك النموذج المعقول والمطلوب لكسر تلك الصور النمطية السلبية عن حال الحرية وارتباطها بالفوضي وعدم الاستقرار والاضطراب الأمني كما هو وضع لبنان حاليا والجزائر سابقا. الاحتمال غير مستبعد إذا استطاعت السلطة المؤقتة ضبط مسار الانتفاضة في قنوات مدنية تعددية تعطي فرصاً للتنافس انطلاقا من برامج سياسية واضحة الأهداف والبنود.
    إن ظروف تونس المغايرة لصورة لبنان (التعدد العصبي الطائفي والمذهبي) لكونها دولة شبه متجانسة في تركيبها الديني والمذهبي ومتقاربة في نسبة نموها الاجتماعي ومستواها التعليمي، وهذه الخصوصية في حال أحسنت السلطة المؤقتة استخدامها لتطوير نموذج تعددي في المرحلة الانتقالية قد تشكل مناسبة لإنتاج تجربة تشجع جمهور دول الجوار والمحيط العربي علي الأخذ بها بوصفها وصفة ناجحة لمشكلات مستعصية.
     إن التجانس التونسي ليس عاملا كافيا للتماسك السياسي، ولكنه يعطي أفضلية للتقدم باتجاه المراهنة علي احتمال ظهور نموذج معاصر يتمتع بمواصفات معقولة ترضي القوي المتنافسة علي الأخذ بمحسناته وإيجابياته. وهذا التجانس النسبي الذي يقوم علي تعددية حزبية ونقابات مهنية وطبقة وسطي منفتحة يعتبر خطوة متقدمة قياسا بالبلدان التي تتنافس ديمقراطيا علي قاعدة تعددية عصبية قبلية أو طائفية أو مذهبية أو مناطقية كما هو حال العراق مثلا، كما أن أنظار المحيط العربي مشدودة الآن إلي تونس، والجمهور يراقب الانفعالات والتحولات بانتظار أن تنتج تلك المتغيرات ذلك النموذج المعقول والمطلوب لكسر تلك القناعات.
تبدو الاحتمالات منعقدة علي مدي نجاح السلطة المؤقتة في إنجاح انتقال البلد في فترة الانتفاضة إلي حال من الاستقرار يستوعب الاستحقاقات ويستقبل المتغيرات بمرونة وانفتاح . المرحلة الانتقالية خطيرة وحساسة وهي علي قصر مدتها الزمنية تشكل ذلك المفتاح السياسي الذي يمكن أن يدخل المنطقة في طور مغاير للزمن السابق أو يؤدي إلي نوع من الارتداد عن التعددية والعودة إلي الاستبداد وعسكرة النظام.(9)
     إن تونس التي عاشت تحت نظام "بن علي" أكثر من 23 عاما، ولم يجـد مواطنوها متنفسا للتعبير، في ظل القيود الصارمة التي فرضـها الرئيس علي الصحافة والإنترنت وحرية التعبير، تعيش الآن فترة هي الأكثر حساسيـة وخطورة، خاصة وأن مواطنيها اختاروا الطريق الذي تري بعض الأنظمة الأخري أنه يجب أن يكـون تدريجيا، وبما أنهم بدأوا من النهاية، وأطاحوا برأس السلطة، فلم يعد الآن هناك مجال للتراجع، إما عهد جديد، أو أزمات سياسية داخلية وعدم استقرار قد يمتد لسنوات، وهو ما يمكن ترجمته عمليا إلي تضاعف نسبة البطالة وتفاقـم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، هذا بخلاف الانفلات الأمني الذي قد تتسم به مثل هذه الحالات، ووقتها قد يقول البعض) أين أيام بن علي! (فهناك أيضا من رأوا فيه نموذجا للاستقرار علي حساب أهــم ثروات المجتمع، وهو المواطن). وهو خطاب يروج له الكثير من العرب المترحمين علي أيام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين عند رؤية التناحر الطائفي في العراق والقتل المجاني بالجملة علي الهوية.
     و بنظرة للوضع السياسي والحزبي في تونس في عهد الرئيس زين العابدين، من الممكن ملاحظة وجود بعض الأحزاب المعارضة، التي بدت علي أنها نوع من الديكور الذي استخدمـه النظـام كأداة مكملة لصورته في الخارج، كما يلاحظ أيضا جانب آخر، وهو أن "بن علي" كان يحرص علي الاستماع لرموز بعض هذه الأحزاب، وفي الغالب تنتهي هذه اللقاءات ببيانات حول مدي إصغاء الرئيس لمواقف ونبض الشارع، ونقـل صورة إيجابية من داخل القصر حول الرئيس المنصت الذي يسعي إلي تلبية تطلعات المواطنين، وهي بيانات كثيرة من الممكن العثور عليها علي المواقع الإلكترونية المتواضعة لهذه الأحزاب، والتي لا يتعــدي بعضها كونه مدونة مجانية الركح السياسي التونسي أو حتي حساب علي الفيس بوك، تمارس التسويق السياسي المجاني لسيادة الرئيس (10).
    بدأت مظاهر الفساد تظهر علي سطح الحياة السياسية التونسية بعد تنفذ محيط عائلة بن علي، خاصة أصهاره آل الطرابلسي والماطري بعد زواج بن علي من ليلي التي تعد زوجته الثانية. فقد تحكمت عائلة بن علي في كل مفاصل الاقتصاد، فقد تحكمت في البنوك والعقارات والسياحة والإعــلام. استحوذ بلحسن طرابلسي، أخ ليلي الأكبر، علي شركة الطيران "كورتاجو إيرلاينز"، وجعل الشركة التونسية "تونس إير" في خدمتها سواء عبر اللوجيستيك وحتي في سوق نقل السياح. كما أن زوج إبنة بن علي، صخر الماطري، استحوذ علي بنك الجنوب التونسي وجني من صفقة بيعه 17مليون دينار تونسي، كما أن الأخير كان العارض الوحيــد لصفقة فتح وكالات بيع السيارات بعد أن تدخلت أسرة زوجته.
    و حسب مصادر لرئيس المجلس الوطني للحريات في تونس، عمر المستيري، فقد أكد، أن ليلي بن علي أخذت معها 1500صفيحة ذهبية، وهي تغادر البلاد استخرجتها من البنك المركزي التونسي، كما أن تنفذ ليلي في الحكم يذكرنا كيف استطاعت أن تسحب الجنسية التونسية من زوجة الراحـل عرفات "سهي" والالتفاف علي مشروع المدرسة الخاصة الذي كلف 205 ملايين أورو.
    كما أن القبضة الحديدية للرئيس بن علي علي كل أجهزة الدولة جعلته يسخر كل الأجهزة الأمنية لبسط سيطرته عبر قمع كل الأصوات المعارضة والقضاء علي أي إمكانية لتواجد التيار الإسلامي الذي زج بأقطابه وأتباعه في السجون. وتذكر الإحصائيات أن عدد المعتقلين وصل أوجه سنتي 192، 1993 حين تجاوز عشـرات الآلاف، بعدما زج بالإسلاميين بالمئات سنة 1999وأعقب ذلك مئات ممن اتهموا بالانتساب إلي السلفية الجهادية وكانت في أغلب الأحوال، اعتقالات استباقية من أجل حشد الدعم الغربي لنظام بن علي.
    كما أنه تم التضييق علي المعارضة وزج بالمنتسبين إليها في السجون وهو ما جعل موضوع الحريات والإعــلام بمثابة رفاهية في تونس التي تحجب فيها مواقع المعارضة ومواقع الاتصال الاجتماعي، حيث تتحكم عائلة بن علي في أجهزة الإعلام السمعية والبصرية والمكتوبة وحتي موزعي الانترنت(11).

رابعا :شجاعة الشباب.وإزالة بقايا الجنرال:

    يروي الصحفي والإعلامي التونسي رشيد خشانة حكاية الشابين اللذين انتحرا لدي انطلاق الانتفاضة في سيــدي بوزيد، وهما محمد البوعزيزي (26 عاما)، وحسين الفالحي (25 عاما) الذي تسلق عمودا كهربائيا معلنا قرفه من العوز والبطالة قبل أن يتفحم، بكونهما يرمزان إلي يأس ذلك الجيل الجديد ليس فقط من تحقيق أحلام المستقبل، التي تملأ صدر رأس كل شاب، وإنما حتي من تأمين الحـد الأدني من الحياة الكريمة. وكانت الإحصاءات الرسمية تقدر نسبة العاطلين بـ14 في المائة في المحافظات الداخلية، وتشمل 30 في المائة من الشبان المنتمين للفئة العمرية ما بين 15 إلي 29سنة. وتعتبر هاتان النسبتان من أعلي نسب البطالة في العالم العربي، ما أوجد قطاعات واسعة من المحرومين والمهمشين الذين شكلوا وقودا للانتفاضة الاجتماعية في مختلف المناطق، ويؤكد بأن الحادث الأهم في الواقع الاجتماعي التونسي
هو ارتفاع نسبة المتعلمين والخريجين بين هؤلاء العاطلين، الذين شكلوا في السنوات الماضية اتحادا للخريجين العاطلين، إلا أن الملاحقات الأمنية والاعتداءات شلته. وبهذا المعني فالعاطل التونسي يشكـل نموذجا خاصا لكونه ليس عديم التكوين ولا فاقدا للخبرة، بل إن مستواه العلمي يحول دون عثوره علي فرصة للعمــل. وخلال العقد الأخير، ارتفعت نسبة الباحثين عن وظائف من بين حملة الشهادات، من 20 في المائة من القوة العاملة سنة 2000 إلي 55 في المائة سنة 2009 وتعزي تلك المفارقة إلي عدم مواءمة النظام التعليمي لمتطلبات سوق العمل، مما أفرز كتلة بشرية هامة من المهمّشين الذين يدفع بهم القنوط إلي الانتحار.
    غير أن إحدي السمات المميزة لظاهرة البطالة في تونس، مقارنة بالمغرب والجزائر مثلا، هي أن مرونة العاطلين تمنحهم القدرة علي إيجاد أعمال مؤقتة في قطاعات اقتصادية موازية، مثل بيــع الخضار علي العربات وغسل السيارات الخاصة والعمل في ورشات البناء، وهو ما أفرز متعلمين يقبعون في أسفل السلــم الاجتماعي، ولا يتمتعون حتي بالحقوق التي يتمتع بها الباعة الدائمون أو البناءون العاديون.
وفي مناخ محتقن كهذا، لا مجال فيه حتي للمخاطرة بالقفز إلي قوارب الموت إلي أوروبا بعد فقدان الأمل في الجنة الموعودة، تكاثرت ظاهرة الانتحار بوصفها علامة علي القنوط ونتيجة لانسداد كافة السبل أمام قطاعات واسعة من الشباب. ويقدر عدد المنتحرين في تونس بألف شخص سنويا، وهي نسبة مرتفعة في بلد لا يتجاوز عدد سكانه 10ملايين فرد، ما يعني أن هناك مواطنا واحدا يلجأ للانتحار من كل ألف مواطن، علي رغم الموانـع الدينية والاستهجان الاجتماعي والأخلاقي لهذه "الحلول". ومن الأرقام ذات الدلالة في هذا المجـال ما صرح به الدكتور أمان الله السعدي، الأستاذ في كلية الطب ورئيس قسم الإنعاش الطبي بـ "ركز الإصابات والحروق البليغة"، من أن 12 في المائة من الوافدين علي المركز هي حالات تخص من حاولوا الانتحار. كما أفاد أيضا أن المركز سجل 280 حالة انتحار في عام 2010منذ بداية العام حتي أكتوبر فقط، أي ما بمعــدل 28 حالة شهريا، أو حالة انتحار في كل يوم تقريبا.
    أما القطاع السياحي، الذي يشكل مصدر الدخل الثالث بعد الفوسفات والمكونات الكهربائية والميكانيكية، فلا يفتح بدوره آفاقا حقيقية لهؤلاء الخريجين لأنه يعتمد أيضا علي ذوي المهارات المتدنية، وهو موجه أساسا للأوروبيين ذوي المداخيل المنخفضة والمتوسطة (12).
و ترافقت تلك الاختلالات الهيكلية مع اختلال هام آخر يتعلق بعدم التوازن التنموي بين المناطق الشرقية، الواقعـة علي الشريط الساحلي، والمناطق الداخلية، وظل هذا التفاوت الموروث من فترة حكم الرئيس الحبيب بورقيبــة عام 1956 يتعمق طيلة العقدين الماضيين. فبلغ حجم الاستثمار في قطاع الصناعة في المناطق الشرقية 689 مليون دينار (472 مليون دولار) في الأشهر الثلاثة الأولي من عام 2009و 587 مليون دينار (402 مليون دولار) خلال الفترة نفسها من 2010 فيما لم يتجاوز الحجم في المناطق الغربية، التي تعتبر مناطــق ظل، 258 مليون دينار (177 مليون دولار) في عام 2009و172 مليون دينار تونسي (118 مليون دولار) في عام 2010 بل إن التفاوت ظهر جليا حتي في نسبة التراجع بين مناطـق وأخري، إذ لم يتجاوز 15في المائة في المحافظات الساحلية، فيما وصل إلي أكثر من الضعف (33 في المائة) في المحافظات الداخلية بهذا المعني نفهم لماذا انطلقت الثورة الاجتماعية غير المسبوقة من الوسط الغربي،
    و انتشـرت أساسا في المناطق المحرومة التي تعاني من التهميش. وفي أجواء الشعور بالحيف الجهوي والغبن الساري بين أبناء تلك المحافظات المنسية، ترعرعت مسوغات التمرد الجماعي، الذي لم يكن ينتظر أكثر من عود ثقاب، سرعان ما قدحــه الشاب البوعزيزي بإقدامه علي فعل تراجيدي شديد الرمزية، مكثف الدلالة، بعيد الصدي(13).
    يعتبر العناد الشعبي أحد أهم ملامح الثورة التونسية، إنه العناد الممزوج بالاستبسال في الدفاع عن كرامة اجتماعية وسياسية مهدورة بدأت ثورة تونس الشعبية المجيدة، بانتفاضات خبز محلية تكررت عدة مرات في وسط وجنوب البلاد في العامين الأخيرين. ولكن الانتفاضة الأخيرة دامت زمنا يكفي كي تنضم إليها المدن والنواحي التونسية الأخري. ويعود الفضل في ديمومتها إلي عناد وبسالة أهالي ناحية سيدي بوزيد الذين اختلط لديهـم المطلب الاجتماعي، بالغضب والدفاع عن الكرامة في مواجهة الإذلال. كانت البداية إذن انتفاضة الخبز والكرامة، وليس الخبز وحده. هذا المركب من رفض الحرمان، ورفض الذل، هو الذي يؤدي للعناد في التعبير عن الغضب(14).
ليست كل انتفاضة خبز مرشحة للتوسع والامتداد حتي التحول إلي ثورة. وقد نجحت في التمدد في هذه الحالة لأسباب عديدة، أهمها:
أ) رد فعل الدولة المستخف بذكاء الناس، ورد فعل الأجهزة الأمنية المستهتر بحياة الناس.
ب) أن تونس أصبحت ناضجة لرفض الوضع القائم من قبل الفئات الاجتماعية المتضررة من التمييز والاستغلال، والمتأذية من اقتصاد النمو دون تنمية، ومن الاقتصاد السياحي الذي يغني ويطور مناطق، ويفقر أخري، ويرفع أسعار العقارات دون نمو لسائر فئات المجتمع. وفقد الاقتصاد الذي يعتمد علي صناعات صغيرة تصدر لأوروبا أهليته للمنافسة حين دخلت الصين منظمة التجارة الحرة، وانحسرت صناعة النسيج والألبسة التونسية وزادت نسب البطالة.
ج) في هذه الحالة عادت حتي انجازات النظام السابق وبالا عليه. فقد ارتفعت نسبة التعليم في تونس فعلا، وقد اهتم نظاما بورقيبة وبن علي بالتعليم فعلا. ولكن نسب التعليم المرتفعة تتحول إلي عبء علي النظام في حالة عدم تمكنه من توفير فرص عمل للخريجين، في الوقت الذي ترتفع فيه نسبة التوقعات عند المتعلميــن لمستقبل أفضل. فحجم الخيبة غالبا ما يكون بقدر حجم التوقعات. ويرفع التعليم نسبة التوقعات، كما يرفع منسوب الوعي الرافض للظلم والفساد(15).
في خضم هذا التدافع والصراع بدا النظام التونسي علي حد تعبير المفكر عزمي بشارة ــ نظاما بلا قضية، "دكتاتوريته رمادية"، لا صلة لها بمزاج الشارع والرأي العام. وقد بدا غير مبال بشكل كامل بالقضايا العربية، ورتب علاقاته مع إسرائيل منذ أوسلو، وجعل قبلته الشمال بشكل سافر وعلني، ولم يكن لديه ما يتباهي به سوي "العلمانوية" التي عمت أعين الكثير من المثقفين والفنانين وغيرهم عن رؤية طبيعـــة النظام الحقيقية. فالعلمانية لا تكفي للتدليل علي شيء، وهي ليست نظام حكم، ولا هي سياسة اقتصادية اجتماعية. والواقع أن التضرر منها قد شمل الفئات المتدينة والعلمانية علي حد سواء(16).
بدأت ثورة تونس عفوية، ولكنها لم تستمر كذلك، إذ انضمت النقابات والمنظمـات الحقوقية ونشطاء قوي سياسية واتحادات الطلاب إلي الاحتجاجات. وحتي حينها لم تكن للانتفاضة قيادة سياسية معارضة معروفة.
هذا لا يعني أنه يحظر علي الأحزاب السياسية استثمار الثورة من أجل التغيير الديمقراطي، فهذا دورها. قد تكون الثورة عفوية، وقد تكون الفوضي الأولي من عناصر قوتها، ولكن العفوية تصبح ضعفا وخطرا حين يتطلب الأمر إدارة المجتمعات والدول، إذ يصبح الأمن الشخصي والاجتماعي وتنظيم الحياة العامة مطلب المجتمع(17) .
    من الملاحظات الجديرة بالتوقف تلك القوة التأطيرية للجمعيات وحركات المجتمع المدني بشكل ساهم بخلق وعي جماعي مدني لحماية الممتلكات العمومية والشخصية، ولعل هذه صفة تونسية تعود لقوة التأطير المجتمعي والتواجد التاريخي المتغلغل لهذه الجمعيات في الأوساط التونسية. ولعل ما يدعو للدهشة والانتباه هو تعاطي المجتمع التونسي مع الفضاء الجمعياتي منذ القديم، إذ ظهرت أولي الجمعيات الخيرية العصرية وازدهرت في أواخر القرن الـ19 وهذا ما يفسر صدور أول أمر ينظم الجمعيات بالرائد التونسي في 15سبتمبر 1988. وقد تضمن هذا الأمر في المادة الثانية منه موافقة الدولة علي تأسيس الجمعية، إذ تأسست جمعية الخلدونية سنة 1896 وجمعية قدماء التلاميذ الصادقية سنة 1905، وجمعية التعاون الخيري بصفاقس سنة 1913. ورغم تعاطي المشرِّع التونسي بنوع من الصرامة والرغبة في تدجين الجمعيات التونسية بدءاً من القانون7 نوفمبر1959 (نظام الترخيص المسبق) وصولا إلي قانون رقم 90 المؤرخ في 20 أغسطس 1988إلا أن عدد الجمعيات التونسية تجاوز 5553 جمعية سنة 1998ليصل إلي 7529 جمعية سنة 2000تنشط في مجالات عديدة وتختلف درجة فاعليتها وتأثيرها، بحسب مجال نشاطها وحسب طبيعة علاقتها والنظام السياسي السائد (18) ونعتقد أن وجود عدد كبير من الجمعيات تتمتع     بحراك تنوعي تساهم بشكل لا يمكن إنكاره في إذكاء روح العمل الجماعية وتنمية الوعي والذكاء الاجتماعي.
إن الدرس التونسي الذي بدا مفاجئا ومثيرا، كان يمكن أن يكون تعبيرا عن مسار نمطي آخر في البيات الشتوي العربي . فقد حدث الكثير لتقع المعجزة بالطبع، لكن السبب الذي أدي لخروج الشعب التونسي وتحويله للمسار الاحتجاجي المطلبي إلي مسار سياسي ربما يكمن في حقيقة قد لا ينتبه لها الكثيرون. و هي حقيقة يراها البعض مدعاة للتعجب. ذلك أن تونس كما هو معروف حققت في زمن زين العابدين بن علي الكثير من معدالت التنمية المقدمة (19) في مجال البني التحتية والنظام التعليمي والبنية السياحية، وهذه التنمية خلقت بطبيعة الحال وجودا حقيقيا لطبقة وسطي بصورة من الصور، الأمر الذي يفسر لنا الكثير من التحولات التي يمكن أن تحدث علي يد تلك الطبقة. فالوعي هو الذي يصنع المعجزة وليس الفقر المدقع أو الغني المترف ومع ذلك فإن تونس بوعي نخبها التي استفادت من نظام تعليمي متقدم، ومن ثم استخدام تقنيات التواصل الحديثة عبر الانترنت، رغم الجفاف الذي أدي إلي إفساد السياسة عبر تغييب بنياتها وآلياتها الموضوعية طوال 23عاما وفق استراتيجية كانت تنطوي علي خطورة بنيوية معيقة، قد تؤدي لا سمح الله إلي انفلات أمني يذهب بها إلي المجهول، إلا أن الشعب التونسي الذي يعرف تماما ما لا يريد ربما أمكنه الوصول إلي ما يريد إذا أدرك طبيعة الحكومة التي ينبغي أن تتولي الأمور عبر تمثيلها لأكثر المكونات السياسية والتكنوقراطية للشعب التونسي (20). بلا إقصاء وتهميش لجميع الفعاليات والبيانات السياسية، إن الإرهاص الكبير الذي يؤرق المتتبع لهذه الثورة هو قدرة النخب التونسية علي فك المعادلة التي تقول: إن قدرتك علي معرفة ما لا تريد لا تعني بالضرورة قدرتك علي ما تريد. فالشعب الذي عرف تماما ما لا يريد - أي وجود نظام بن علي ذ يفترض أن يجسد ما يريده علي نحو يترجم آفاق ثورته ليدون تاريخاً سياسيا جديدا تحكمه في ذلك المقولة الشهيرة " أن تفكر سياسيا بشكل جيدا فهذا يتطلب منك أن تقرأ تاريخيا بشكل جيد "
الخاتمة:
    يقول المثل العربي إذا ضربت فأوجع، وإذا تكلمت فأسمع، وإذا مشيت فأسرع، وإذا أطعمت فأشبع، وإذا ناقشت فأقنع، وإذا كتبت فأبدع، وإذا أشعرت فأسجع.
    من المهم ولنجاح الثورة أن تواصل النهج السلمي في التغيير بطريقة العصيان المدني من طرائق لا حد لها أوصلها جماعة اللآعنفيين إلي طريقة من الاعتصام السلمي والمظاهرات والإضرابات والصيام ورفع الشعارات وحفلات الموسيقي وتعليق اللافتات علي الباصات والجلوس علي الأرض. وصيانة الثورة بعد نجاحها بنفس الأسلوب وكذا استكمال العمل حتي الأخير فمن لم يتم عمله كأنه لم يعمل شيئا. ومتابعة العصيان المدني حتي كنس النظام بالكلية والتغيير الكامل بولادة أمة محررة من الخوف (والعبودية21).
    أما الدرس التونسي البليغ فيكمن في أن تغيير النظام لا يتحقق فقط بـ "فرار" بن علي. وكأنهم ذ أي التونسيين - استخلصوا دروسا من تجارب عربية أخري، حيث استبق النظام الغاضبين، رافعا لواء التغيير والإصلاح ليتلاعب بها، ويدجنها كما يشاء. مستعملا اللجان والتقارير واللقاءات والندوات.، وما كان يستقبل به بعض المعارضة التونسية التي أبدت تجاوبا مع اصطلاحات بن علي المعلن عنها في آخر خطاب له، رفضه الشارع الذي وصل تحديه لبقايا النظام. فتونس تريد التغيير، وهي تصنعه فعلا. تونس لا تريد الخلط بين القديم والجديد. لأنها وصلت إلي ذروة عدم ملائمة القديم مع الجديد. والرصاص الذي "أكل" حياة مواطنين. وعمليات التوقيف والتعذيب أدت إلي التصعيد، ثم إلي المطالبة بإزالة السيف الذي كان مصلطا ًعلي رقاب التونسيين. لقد رفض بن علي التغيير، فأقصاه الشارع (22. وخلاصة لكل ما سبق يمكن القول :
ــ إن قوة الثورة التونسية هو كونها امتداد لنبض الشارع، وتحرك لشارع احتضن الثورة فاحتضنته بآفاقها السياسية والقانونية والاجتماعية.
ــ إن الثورة تقاس قدرتها علي البناء، بناء الدولة وبناء السلطة وبناء السياسة، وهو تحد كبير سيواجهه التونسيون خلال السنوات القادمة.
ــ من الواقعي والبراجماتي أن لا تحمل الثورة التونسية أكثر من حمولاتها، فتونس دولة قليلة الموارد، ولكنها تتمتع بموارد بشرية عالية التأهيل والتكوين، ولأجل ذلك ينبغي لإدارة الدولة وشونها أن تراعي في تعاطيها المستقبلي مع الجوار المتوسطي ذلك التوازن الذكي للحد من الفقر، وتحقيق تنمية توازن بين الحق في التنمية الإنسانية الاقتصادية والحق في التنمية الإنسانية الاقتصادية والحق في الحرية علي حد سواء.
ــ إن الدولة لا تبنيها الايديولوجيات رغم ضرورتها وأهميتها، ولكن يبنيها فن التدبير وبراعة التسيير، ومهارة إدارة الائتلاف والاختلاف علي السواء، وتلك مهمة صعبة ووعرة إذا أجادها التونسيون فإنهم لن يقعوا قطعا في حروب الاستقطابات الفئوية، وطواحين الصراعات المناطقية والجهورية الضيقة.
الهوامش:
1ـ هذه بعض التساؤلات التي طرحها المفكر العربي عزمي بشارة في محاضرة ألقاها بعنوان ثورة الشعب في تونس، أسبابها ونتائجها وإنعكاساتها عربياً، من تنظيم المركز العربي للبحث في السياسات، في الدوحة، الخميس20 / 1 / 2011 .
2ـحيلاحظ أنّه قبل سقوط نظام "بن علي" تغيّرت الشعارات كلية إذ أخذت أبعاداً سياسية مثل "خبز وماء وبن علي لا"، "بن علي إرحل"، Ben ali dgage".
3ـ تعتبر الثورة الفرنسية أن الديمقراطية ليست مسألة خبز وزبدة ولكنها مسألة ذهنية وقلب
La Dmocratie nصest pas un question de pain et de beur, cصest une question d+ esprit et de cدur .
4ـ علي خليفة الكواري ، بشائر تونس: تحركات الشارع العربي من أجل الديمقراطية: في الديمقراطية والتحركات الراهنة للشارع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ديسمبر 2007ص:32 ــ 7 .
5ـ بومدين بوزيد ، حدود قوة الشارع في التغيير السياسي وسبل تعزيز التحول الديمقراطي ومحاولة في فهم تعثر التجربة الديمقراطية في الجزائر، المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد11 صيف 2006، ص44 ، 54، 64.
6ـ الديمقراطية والتحركات الراهنة للشارع العربي، المرجع السابق، ص، 21.
7ـ كتبت دراسات غربية عديدة حول ثورة الشارع مثل:
-PHILIPPE Godard, la dmocratie a- t- elle t un seul jour pour le "pouvoir du peuple"
Publien PDF par di ogene.ch.
http//creativecommons.org/licenses/by-nc-2.0/fr/ %20
-C dric Milhlat, تla souvrainet du/des peules (s):utile/ultime contre pouvoir face ltat et lunion europenne
www.droit constitutionnel.org/congres Paris/ة/ Milhat TXT.pdf
- raphal canet,le peuple contre la nation: Mobilisations sociales et dmoratie au Mexique,
la chronique des Amriquesت,janvier 2007N 2.
8ـ صبري حسنين، خبراء:الثورة التونسية ستلهم الشعوب للتخلص من الاستبداد،
http//www.elaph.com/web/news/2011/1/625031-html
9ـ وليد نويهض، تونس ومخاطر المرحلة الانتقالية، مجلة الوسط، عدد 17 يناير2011 الموافق 13صفر 1433هـ، ص:18.
10ـ مقال بعنوان:الشارع التونسي بدأ طريق الديمقراطية من نهايته وأطاح برأس السلطة، ونجاح الثورة البيضاء علي المحك.
http//:www.alray news.com/news.aspxid=380678
11ـ يومية الخبر الجزائر، عدد الأحد16 يناير2011الموافق ل 11 صفر 1433هـ، ص 6 .
12ـ رشيد خشانة، الإنتفاضة التونسية :الدوافع والتداعيات، يناير 2011سلسلة تقارير مركز الجزيرة للأبحاث، يناير 2011 ص:2 - 4
13ــ المرجع السابق، ص، 4 ــ 5 .
14ــ عزمي بشارة، مصدر ثورة تونس الشعبية المجيدة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2011ص:20
15ــ المرجع السابق، ص،3 .
16ـ المرجع السابق، ص،4.
17ــ المرجع السابق، ص،5 .
18ــ للاستزادة أكثر تطالع الورقة التفصيلية للباحثة:
فتحية السعيدي، تقييم وطني لمشاركة المواطنين والمجتمع المدني في إصلاح القطاع العام في تونس، برنامج الادارة الرشيدة لخدمة التنمية في الدول العربية ص:20ــ 21 .
www.pogar.org/publications/civill/assessments/tunisia-a.bdf
19ــ ضلت تونس الي ما قبل الثورة الشعبية رمزا لجودة الحياة وفق تقارير دولية وغربية، لاحظ مثلا أنه وفق تقرير مؤسسة انترناشيونال ليفنغ (international living) لسنة 2009. أن تونس تعتبر الأولي عربياً من حيث جودة الحياة، الثانية عالمياً من حيث حسن التصرف في المال العمومي وفق منتدي دافوس، نسبة التحضر أكثر من 65% نسبة الإنارة الكهربائية ونسبة الربط بمياه الشرب 98% نسبة المالكين لمسكنهم الخاص 80%، توسعت الطبقة الوسطي لتشمل أكثر من ثلثي المجتمع 81 %، نسبة الفقر 38%، التغطية الاجتماعية 91%، نسبة تعليم الأطفال 90%، ورد ذلك في صحيفة العرب الأسبوعي عدد السبت 4 / 2 / 2009.
20ــ محمد جميل أحمد، الانتفاضة التونسية، جدلية الوعي والجغرافيا، موقع ايلاف يوم 15يناير 2001
http//:www.elaph.com/web/opinion/2011/01/625097.html
21ــ خالص جلبي، أيّها التوانسة احذروا الإنقلاب؟ موقع إيلاف يوم الأحد 16يناير2011
http//:www.elaph.com/web/opinion/2011/10/625214 .html
22ــ يومية الخبر، الجزائر، عدد الأحد 16يناير 2011ص،20.



المصدر : 
 http://digital.ahram.org.eg/Policy.aspx?Serial=479013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق